[الإسراء : 2] وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً
2 - قال تعالى (وآتينا موسى الكتاب) التوراة (وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا) يفوضون إليه أمرهم وفي قراءة تتخذوا بالفوقانية التفاتا فأن زائدة والقول مضمر
يقول تعالى ذكره : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا وآتى موسى الكتاب ، ورد الكلام إلى "وآتينا" وقد ابتدأ بقوله أسرى لما قد ذكرنا قبل فيما مضى من فعل العرب في نظائر ذلك من ابتداء الخبر بالخبر عن الغائب ، ثم الرجوع إلى الخطاب وأشباهه . وعني بالكتاب الذي أوتي موسى : التوراة "وجعلناه هدى لبني إسرائيل" يقول : وجعلنا الكتاب الذي هو التوراة بيانا للحق ، ودليلا لهم على محجة الصواب فيما افترض عليهم ، وأمرهم به ، ونهاهم عنه وقوله " أن لا تتخذوا من دوني وكيلا" اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء المدينة والكوفة " أن لا تتخذوا " بالتاء بمعنى : وآتينا موسى الكتاب بأن لا تتخذوا يا بني إسرائيل "من دوني وكيلا" وقرأ ذلك بعض قراء البصرة ألا يتخذوا بالياء على الخبر عن بني إسرائيل ، بمعنى : وجعلناه هدى لبني إسرائيل ، ألا يتخذ بنو إسرائيل من دوني وكيلا، وهما قراءتان صحيحتا المعنى ، متفقتان غير مختلفتين ،فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب ، غير أني أوثر القراءة بالتاء، لأنها أشهر في القراءة وأشد استفاضةفيهم من القراءة،بالياء . ومعنى الكلام : واتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا حفيظا لكم سواي . وقذ بينا معنى الوكيل فيما مضى وكان مجاهد يقول : معناه في هذا الموضع : الشريك .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله " أن لا تتخذوا من دوني وكيلا" قال شريكا . وكأن مجاهدا جعل إقامة من أقام شيئاً سوى الله مقامه شريكا منه له ، ووكيلا للذي أقامه مقام الله .
وبنحو الذي قلنا في تاويل هذه الآية، قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله " وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل " جعله الله لهم هدى، يخرجهم من الظلمات إلى النور، وجعله رحمة لهم.
أي كرمنا محمد صلى الله عليه وسلم بالمعراج ، وأكرمنا موسى بالكتاب وهو التوراة . " وجعلناه " أي ذلك الكتاب . وقيل موسى . وقيل معنى الكلام : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا وآتى موسى الكتاب ، فخرج من الغيبة إلى الأخبار عن نفسه جل وعز . وقيل : إن معنى سبحان الذي أسرى بعبده ليلا ، معناه أسرنا ، يدل عليه ما بعده من قوله : " لنريه من آياتنا " فحمل وآتينا موسى الكتاب على المعنى . " أن لا تتخذوا " قرأ أبو عمرو يتخذوا بالياء . الباقون بالتاء . فيكون من باب تلوين الخطاب . " وكيلا " أي شريكا ، عن مجاهد . وقيل : كفيلا بأمورهم ، حكاه الفراء . وقيل : ربا يتوكلون عليه في أمورهم ، قاله الكلبي . وقال الفراء : كافيا ، والتقدير : عهدنا إليه في الكتاب ألا تتخذوا من دوني وكيلا . وقيل : التقدير لئلا تتخذوا . والوكيل : من يوكل إليه الأمر .
قال الإمام أبو جعفر بن جرير في تفسير سورة سبحان: حدثنا علي بن سهل , حدثنا حجاج حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس , عن أبي العالية الرياحي عن أبي هريرة أو غيره, شك أبو جعفر , في قول الله عز وجل "سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً" الاية, قال: " جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ميكائيل, فقال جبريل لميكائيل: ائتني بطست من ماء زمزم كيما أطهر له قلبه وأشرح له صدره, قال: فشق عن بطنه فغسله ثلاث مرات, واختلف إليه ميكائيل بثلاث طساس من ماء زمزم, فشرح صدره فنزع ما كان فيه من غل, وملأه علماً وحلماً وإيماناً ويقيناً وإسلاماً, وختم بين كتفيه بخاتم النبوة, ثم أتاه بفرس فحمله عليه كل خطوة منه منتهى بصره أو أقصى بصره, قال: فسار وسار معه جبريل عليهما السلام, قال: فأتى على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم, كلما حصدوا عاد كما كان, فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا جبريل ما هذا ؟ قال: هؤلاء المجاهدون في سبيل الله تضاعف لهم الحسنة بسبعمائة ضعف, وما أنفقوا من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين, ثم أتى على قوم ترضخ رؤوسهم بالصخر, كلما رضخت عادت كما كانت ولا يفتر عنهم من ذلك شيء, فقال ما هؤلاء يا جبريل ؟ قال: هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة, ثم أتى على قوم على أقبالهم رقاع وعلى أدبارهم رقاع, يسرحون كما تسرح الإبل والنعم, ويأكلون الضريع والزقوم ورضف جهنم وحجارتها, قال فما هؤلاء يا جبريل ؟ قال: هؤلاء الذي لا يؤدون صدقات أموالهم وما ظلمهم الله تعالى شيئاً, وما الله بظلام للعبيد ثم أتى على قوم بين أيديهم لحم نضيج في قدر ولحم نيء في قدر خبيث, فجعلوا يأكلون من اللحم النيء الخبيث ويدعون النضيج الطيب, فقال: ما هؤلاء يا جبريل ؟ فقال هذا الرجل من أمتك تكون عنده المرأة الحلال الطيبة, فيأتي امرأة خبيثة فيبيت عندها حتى يصبح, والمرأة تقوم من عند زوجها حلالاً طيباً فتأتي رجلاً خبيثاً فتبيت معه حتى تصبح, قال: ثم أتى على خشبة على الطريق لا يمر بها ثوب إلا شقته ولا شيء إلا خرقته, قال: ما هذا يا جبريل ؟ قال: هذا مثل أقوام أمتك يقعدون على الطريق فيقطعونها, ثم تلا "ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون" الاية, قال: ثم أتى على رجل قد جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها وهو يزيد عليها, فقال: ما هذا يا جبريل ؟ قال هذا الرجل من أمتك يكون عليه أمانات للناس لا يقدر على أدائها وهو يريد أن يحمل عليها, ثم أتى على قوم تقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد, كلما قرضت عادت كما كانت لا يفتر عنهم من ذلك شيء, فقال: ما هذا يا جبريل ؟ فقال: هؤلاء خطباء الفتنة, ثم أتى على جحر صغير يخرج منه ثور عظيم, فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث خرج فلا يستطيع, فقال: ما هذا يا جبريل ؟ فقال هذا الرجل يتكلم بالكلمة العظيمة ثم يندم عليها فلا يستطيع أن يردها.
ثم أتى على واد فوجد ريحاً طيبة باردة وريح مسك وسمع صوتاً, فقال يا جبريل ما هذه الريح الطيبة الباردة, وما هذا المسك, وما هذا الصوت ؟ قال: هذا صوت الجنة تقول: يا رب ائتني بما وعدتني فقد كثرت غرفي وإستبرقي, وحريري وسندسي, وعبقري ولؤلؤي, ومرجاني وفضتي وذهبي, وأكوابي وصحافي وأباريقي وأكؤسي, وعسلي ومائي ولبني وخمري, فائتني بما وعدتني, فقال: لك كل مسلم ومسلمة ومؤمن ومؤمنة, ومن آمن بي وبرسلي وعمل صالحاً ولم يشرك بي شيئاً, ولم يتخذ من دوني أنداداً, ومن خشيني فهو آمن, ومن سألني أعطيته, ومن أقرضني جزيته, ومن توكل علي كفيته, إني أنا الله لا إله إلا أنا لا أخلف الميعاد, وقد أفلح المؤمنون تبارك الله أحسن الخالقين, قالت: قد رضيت.
قال: ثم أتى على واد فسمع صوتاً منكراً ووجد ريحاً خبيثة, فقال: ما هذا يا جبريل وما هذا الصوت ؟ فقال: هذا صوت جهنم تقول: يا رب ائتني بما وعدتني فقد كثرت سلاسلي, وأغلالي وسعيري, وحميمي, وضريعي وغساقي وعذابي, وقد بعد قعري واشتد حري, فائتني بما وعدتني, قال: لك كل مشرك ومشركة, وكافر وكافرة, وكل خبيث وخبيثة, وكل جبار لا يؤمن بيوم الحساب, قالت: قد رضيت.
قال: ثم سار حتى أتى بيت المقدس فنزل فربط فرسه إلى الصخرة, ثم دخل فصلى مع الملائكة, فلما قضيت الصلاة قالوا, يا جبريل من هذا معك ؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم, قالوا: أوقد أرسل إليه فقال: نعم, قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ, ونعم الخليفة, ونعم المجيء جاء. قال: ثم لقي أرواح الأنبياء فأثنوا على ربهم, فقال إبراهيم عليه السلام: الحمد لله الذي اتخذني خليلاً, وأعطاني ملكاً عظيماً, وجعلني أمة قانتاً يؤتم بي, وأنقذني من النار وجعلها علي برداً وسلاماً, ثم إن موسى عليه السلام أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذي كلمني تكليماً, وجعل هلاك آل فرعون ونجاة بني إسرائيل على يدي, وجعل من أمتي قوماً يهدون بالحق وبه يعدلون, ثم إن داود عليه السلام أثنى على ربه, فقال: الحمد لله الذي جعل لي ملكاً عظيماً, وعلمني الزبور, وألان لي الحديد, وسخر لي الجبال يسبحن والطير, وأعطاني الحكمة وفصل الخطاب.
ثم إن سليمان عليه السلام أثنى على ربه, فقال: الحمد لله الذي سخر لي الرياح وسخر لي الشياطين يعملون لي ما شئت من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات, وعلمني منطق الطير, وآتاني من كل شيء فضلاً, وسخر لي جنود الشياطين والإنس والطير, وفضلني على كثير من عباده المؤمنين, وآتاني ملكاً عظيماً لا ينبغي لأحد من بعدي, وجعل ملكي طيباً ليس فيه حساب.
ثم إن عيسى عليه السلام أثنى على ربه عز وجل, فقال: الحمد لله الذي جعلني كلمته, وجعل مثلي كمثل آدم خلقه من تراب, ثم قال له كن فيكون, وعلمني الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل, وجعلني أخلق من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله, وجعلني أبرىء الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله, ورفعني وطهرني, وأعاذني وأمي من الشيطان الرجيم, فلم يكن للشيطان علينا سبيل.
قال: ثم إن محمداً صلى الله عليه وسلم أثنى على ربه عز وجل, فقال: كلكم أثنى على ربه, وإني مثن على ربي, فقال: الحمد لله الذي أرسلني رحمة للعالمين وكافة للناس بشيراً ونذيراً, وأنزل علي الفرقان فيه بيان كل شيء وجعل أمتي خير أمة أخرجت للناس, وجعل أمتي أمة وسطاً وجعل أمتي هم الأولون وهم الاخرون, وشرح لي صدري ووضع عني وزري, ورفع لي ذكري, وجعلني فاتحاً وخاتماً فقال إبراهيم عليه السلام: بهذا فضلكم محمد صلى الله عليه وسلم .
قال أبو جعفر الرازي : خاتم بالنبوة فاتح بالشفاعة يوم القيامة, ثم أتي بآنية ثلاثة مغطاة أفواهها, فأتي بإناء منها فيه ماء, فقيل له: اشرب, فشرب منه يسيراً, ثم دفع إليه إناء آخر فيه لبن, فقيل له: اشرب, فشرب منه حتى روي, ثم دفع إليه إناء آخر فيه خمر, فقيل له: اشرب, فقال: لا أريده قد رويت, فقال له جبريل: أما إنها ستحرم على أمتك ولو شربت منها لم يتبعك من أمتك إلا القليل.
قال: ثم صعد به إلى السماء فاستفتح, فقيل: من هذا يا جبريل ؟ فقال: محمد, فقالوا: أوقد أرسل إليه ؟ قال: نعم, قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة, فنعم الأخ, ونعم الخليفة, ونعم المجيء جاء, ففتح لهما, فدخل فإذا برجل تام الخلق لم ينقص من خلقه شيء, كما ينقص من خلق الناس, عن يمينه باب يخرج منه ريح طيبة, وعن شماله باب يخرج منه ريح خبيثة, فإذا نظر إلى الباب الذي عن يمينه ضحك واستبشر, وإذا نظر إلى الباب الذي عن شماله بكى وحزن, فقلت: يا جبريل, من هذا الشيخ التام الخلق الذي لم ينقص من خلقه شيء, وما هذان البابان ؟ فقال: هذا أبوك آدم, وهذا الباب الذي عن يمينه باب الجنة, إذا نظر إلى من يدخل الجنة من ذريته ضحك واستبشر, والباب الذي عن شماله باب جهنم, إذا نظر إلى من يدخلها من ذريته بكى وحزن.
ثم صعد به جبريل إلى السماء الثانية فاستفتح, فقيل: من هذا معك ؟ فقال: محمد رسول الله, فقالوا: أو قد أرسل إليه ؟ قال: نعم, فقالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة, فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء, قال: فدخل, فإذا هو بشابين, فقال: يا جبريل من هذان الشابان ؟ قال: هذا عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا ابنا الخالة عليهما السلام.
قال: فصعد به إلى السماء الثالثة, فاستفتح, فقالوا: من هذا ؟ قال: جبريل, قالوا: ومن معك ؟ قال: محمد, فقالوا: أو قد أرسل إليه ؟ قال: نعم, فقالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة, فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء, قال: فدخل, فإذا هو برجل قد فضل على الناس في الحسن, كما فضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب, قال: من هذا يا جبريل الذي قد فضل على الناس في الحسن ؟ قال: هذا أخوك يوسف عليه السلام.
قال: ثم صعد به إلى السماء الرابعة, فاستفتح, فقالوا: من هذا ؟ قال: جبريل, قالوا: ومن معك ؟ قال: محمد, فقالوا: أو قد أرسل إليه ؟ قال: نعم, فقالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة, فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء, قال: فدخل, فإذا هو برجل, قال: من هذا يا جبريل ؟ قال: هذا إدريس عليه السلام رفعه الله مكاناً علياً.
قال: فصعد به إلى السماء الخامسة, فاستفتح, فقالوا: من هذا ؟ قال: جبريل, قالوا: ومن معك ؟ قال: محمد, فقالوا: أو قد أرسل إليه ؟ قال: نعم, فقالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة, فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء, قال: فدخل, فإذا هو برجل جالس وحوله قوم يقص عليهم, قال: بمن هذا يا جبريل, ومن هؤلاء حولهب ؟ قال: هذا هارون المحبب, وهؤلاء بنو إسرائيل.
قال: ثم صعد به إلى السماء السادسة, فاستفتح, فقالوا: من هذا ؟ قال: جبريل, قالوا: ومن معك ؟ قال: محمد, فقالوا: أو قد أرسل إليه ؟ قال: نعم, فقالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة, فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء, قال: فدخل, فإذا هو برجل جالس فجاوزه فبكى الرجل, فقال: يا جبريل من هذا ؟ قال: موسى, قال: فما باله يبكي ؟ قال: يزعم بنو إسرائيل أني أكرم بني آدم على الله عز وجل, وهذا رجل من بني آدم قد خلفني في دنيا وأنا في أخرى, فلو أنه بنفسه لم أبال ولكن مع كل نبي أمته.
قال: ثم صعد به إلى السماء السابعة, فاستفتح, فقالوا: من هذا ؟ قال: جبريل, قالوا: ومن معك ؟ قال: محمد, فقالوا: أو قد أرسل إليه ؟ قال: نعم, فقالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة, فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء, قال: فدخل, فإذا هو برجل أشمط جالس عند باب الجنة على كرسي, وعنده قوم جلوس, بيض الوجوه أمثال القراطيس, وقوم في ألوانهم شيء, فقام هؤلاء الذين في ألوانهم شيء, فدخلوا نهراً فاغتسلوا فيه, فخرجوا وقد خلص من ألوانهم شيء, ثم دخلوا نهراً آخر فاغتسلوا فيه فخرجوا وقد خلص من ألوانهم شيء. ثم دخلوا نهراً آخر فاغتسلوا فيه, فخرجوا وقد خلصت ألوانهم فصارت مثل ألوان أصحابهم, جاؤوا فجلسوا إلى أصحابهم, فقال: يا جبريل من هذا الأشمط, ثم من هؤلاء البيض الوجوه ومن هؤلاء الذين في ألوانهم شيء, وما هذه الأنهار التي دخلوا فيها فجاؤوا وقد صفت ألوانهم ؟ قال: هذا أبوك إبراهيم, أول من شمط على وجه الأرض, وأما هؤلاء البيض الوجوه, فقوم لم يلبسوا إيمانهم بظلم, وأما هؤلاء الذين في ألوانهم شيء, فقوم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً, فتابوا فتاب الله عليهم, وأما الأنهار, فأولها رحمة الله, والثاني نعمة الله, والثالث سقاهم ربهم شراباً طهوراً.
قال: ثم انتهى إلى السدرة, فقيل له: هذه السدرة ينتهي إليها كل أحد خلا من أمتك على سنتك, فإذا هي شجرة يخرج من أصلها أنهار من ماء غير آسن, وأنهار من لبن لم يتغير طعمه, وأنهار من خمر لذة للشاربين, وأنهار من عسل مصفى, وهي شجرة يسير الراكب في ظلها سبعين عاماً لا يقطعها, والورقة منها تغطي الأمة كلها, قال: فغشيها نور الخلاق عز وجل, وغشيتها الملائكة أمثال الغربان حين يقعن على الشجرة, من حب الرب تبارك وتعالى, قالوا: فكلمه الله عند ذلك فقال له: سل, فقال: إنك اتخذت إبراهيم خليلاً وأعطيته ملكاً عظيماً, وكلمت موسى تكليماً وأعطيت داود ملكاً عظيماً وألنت له الحديد, وسخرت له الجبال, وأعطيت سليمان ملكاً وسخرت له الجن والإنس والشياطين, وسخرت له الرياح وأعطيت له ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده, وعلمت عيسى التوراة والإنجيل وجعلته يبرىء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذنك, وأعذته وأمه من الشيطان الرجيم, فلم يكن للشيطان عليهما سبيل, فقال له الرب عز وجل: وقد اتخذتك خليلاً ـ وهو مكتوب في التوراة حبيب الرحمن ـ وأرسلتك إلى الناس كافة بشيراً ونذيراً, وشرحت لك صدرك, ووضعت عنك وزرك, ورفعت لك ذكرك, فلا أذكر إلا ذكرت معي, وجعلت أمتك خير أمة أخرجت للناس, وجعلت أمتك أمة وسطاً, وجعلت أمتك هم الأولين وهم الاخرين وجعلت أمتك لا تجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي, وجعلت من أمتك أقواماً قلوبهم أناجيلهم, وجعلتك أول النبيين خلقاً وآخرهم بعثاً, وأولهم يقضى له, وأعطيتك سبعاً من المثاني لم يعطها نبي قبلك, وأعطيتك خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم أعطها نبياً قبلك, وأعطيتك الكوثر, وأعطيتك ثمانية أسهم: الإسلام والهجرة والجهاد والصلاة والصدقة وصوم رمضان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وجعلتك فاتحاً خاتماً, فقال النبي صلى الله عليه وسلم فضلني ربي بست: أعطاني فواتح الكلام وخواتيمه, وجوامع الحديث, وأرسلني إلى الناس كافة بشيراً ونذيراً, وقذف في قلوب أعدائي الرعب من مسيرة شهر, وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي, وجعلت لي الأرض كلها طهوراً ومسجداً, قال: وفرض عليه خمسين صلاة.
فلما رجع إلى موسى قال: بم أمرت يا محمد ؟ قال: بخمسين صلاة, قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف, فإن أمتك أضعف الأمم, فقد لقيت من بني إسرائيل شدة, قال: فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه عز وجل فسأله التخفيف, فوضع عنه عشراً ثم رجع إلى موسى فقال له: بكم أمرت ؟ قال بأربعين قال ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف, فإن أمتك أضعف الأمم, ولقد لقيت من بني إسرائيل شدة, قال: فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه, فسأله التخفيف, فوضع عنه عشراً, فرجع إلى موسى, فقال: بكم أمرت: قال أمرت بثلاثين, فقال له موسى ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف, فإن أمتك أضعف الأمم, فقد لقيت من بني إسرائيل شدة, فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه عز وجل فسأله التخفيف, فوضع عنه عشراً فرجع إلى موسى فقال له: بكم أمرت ؟ قال بعشرين, قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف, فإن أمتك أضعف الأمم, فقد لقيت من بني إسرائيل شدة, قال: فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه عز وجل فسأله التخفيف, فوضع عنه عشراً فرجع إلى موسى عليه السلام, فقال له: بكم أمرت ؟ قال بعشر, قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف, فإن أمتك أضعف الأمم, فقد لقيت من بني إسرائيل شدة, قال: فرجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه عز وجل فسأله التخفيف, فوضع عنه خمساً, فرجع إلى موسى عليه السلام, فقال له: بكم أمرت ؟ قال بخمس, قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف, فإن أمتك أضعف الأمم, وقد لقيت من بني إسرائيل شدة, قال: قد رجعت إلى ربي حتى استحييت, فماأنا براجع إليه, قيل: أما إنك كما صبرت نفسك خمس صلوات, فإنهن يجزين عنك خمسين صلاة, فإن كل حسنة بعشر أمثالها, قال: فرضي محمد صلى الله عليه وسلم كل الرضا, قال: وكان موسى عليه السلام من أشدهم عليه حين مر به وخيرهم له حين رجع إليه " .
ثم رواه ابن جرير عن محمد بن عبيد الله عن أبي النضر هاشم بن القاسم , عن أبي جعفر الرازي , عن الربيع بن أنس , عن أبي العالية أو غيره, شك أبو جعفر عن أبي هريرة , عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره بمعناه, وقد رواه الحافظ أبو بكر البيهقي عن أبي سعيد الماليني , عن ابن عدي , عن محمد بن الحسن السكوني البالسي بالرملة, حدثنا علي بن سهل فذكر مثل ما رواه ابن جرير عنه, وذكر البيهقي أن الحاكم أبا عبد الله رواه عن إسماعيل بن محمد بن الفضل بن محمد الشعراني عن جده, عن إبراهيم بن حمزة الزبيري , عن حاتم بن إسماعيل , حدثني عيسى بن ماهان يعني أبا جعفر الرازي عن الربيع بن أنس , عن أبي العالية , عن أبي هريرة , عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره.
وقال ابن أبي حاتم : ذكر أبو زرعة , حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا يونس بن بكير حدثنا عيسى بن عبد الله التميمي عن أبي جعفر الرازي , عن الربيع بن أنس البكري , عن أبي العالية أو غيره, شك عيسى, عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قوله تعالى: "سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام" فذكر الحديث بطوله كنحو مما سقناه, "قلت" و أبو جعفر الرازي : قال: فيه الحافظ أبو زرعة الرازي : يهم في الحديث كثيراً, وقد ضعفه غيره أيضاً, ووثقه بعضهم, والظاهر أنه سيء الحفظ, ففيما تفرد به نظر. وهذا الحديث في بعض ألفاظه غرابة ونكارة شديدة, وفيه شيء من حديث المنام من رواية سمرة بن جندب في المنام الطويل عند البخاري , ويشبه أن يكون مجموعاً من أحاديث شتى أو منام أو قصة أخرى غير الإسراء, والله أعلم.
وقد روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث عبد الرزاق , أنبأنا معمر عن الزهري , أخبرني سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "حين أسري بي, لقيت موسى عليه السلام ـ فنعته, فإذا رجل حسبته قال ـ مضطرب رجل الرأس كأنه من رجال شنوءة, قال: ولقيت عيسى ـ فنعته النبي صلى الله عليه وسلم قال ـ ربعة أحمر كأنما خرج من ديماس ـ يعني حمام, قال ـ ولقيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به, قال: وأتيت بإناءين في أحدهما لبن وفي الاخر خمر, قيل لي: خذ أيهما شئت, فأخذت اللبن فشربت, فقيل لي: هديت الفطرة ـ أو أصبت الفطرة ـ أما إنك لو أخذت خمراً غوت أمتك" وأخرجاه من وجه آخر عن الزهري به نحوه.
وفي صحيح مسلم عن محمد بن رافع عن الحجين بن المثنى , عن عبد العزيز بن أبي سلمة عن عبد الله بن الفضل الهاشمي , عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي, فسألوني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها, فكربت كرباً ما كربت مثله قط, فرفعه الله إلي أنظر إليه ما سألوني عن شيء إلا أنبأتهم به, وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء, وإذا موسى قائم يصلي, وإذا هو رجل جعد كأنه من رجال شنوءة, وإذا عيسى بن مريم قائم يصلي أقرب الناس شبهاً به عروة بن مسعود الثقفي , وإذا إبراهيم قائم يصلي أقرب الناس شبهاً به صاحبكم ـ يعني نفسه ـ فحانت الصلاة فأممتهم, فلما فرغت قال قائل: يا محمد هذا مالك خازن جهنم, فالتفت إليه فبدأني بالسلام".
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي , حدثنا حجاج بن منهال , حدثنا حماد بن سلمة , عن علي بن زيد عن أبي الصلت , عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رأيت ليلة أسري بي لما انتهيت إلى السماء السابعة, فنظرت فوق فإذا رعد وبرق وصواعق, قال: وأتيت على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم, فقلت: من هؤلاء يا جبريل ؟ قال: هؤلاء آكلو الربا, فلما نزلت إلى السماء الدنيا نظرت أسفل مني فإذا أنا برهج ودخان وأصوات, فقلت: من هؤلاء يا جبريل ؟ قال: هذه الشياطين يحومون على أعين بني آدم لا يتفكرون في ملكوت السموات والأرض, ولولا ذلك لرأوا العجائب" ورواه الإمام أحمد عن حسن وعفان , كلاهما عن حماد بن سلمة به. ورواه ابن ماجه من حديث حماد به.
قال الحافظ البيهقي : حدثنا أبو عبد الله يعني الحاكم , حدثنا عبد الله بن زيد بن يعقوب الدقاق الهمداني , حدثنا إبراهيم بن الحسين الهمداني , حدثنا أبو محمد هو إسماعيل بن موسى الفزاري , حدثنا عمر بن سعد النضري من بني نصر بن معين, حدثني عبد العزيز وليث ابن أبي سليم , و سلمان الأعمش وعطاء بن السائب , بعضهم يزيد في الحديث على بعض, عن علي بن أبي طالب, وعبد الله بن عباس ومحمد بن إسحاق بن يسار عمن حدثه عن ابن عباس , وعن سليم بن مسلم العقيلي عن عامر الشعبي , عن عبد الله بن مسعود وجويبر الضحاك بن مزاحم , قالوا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أم هانىء راقداً وقد صلى العشاء الاخرة, قال أبو عبد الله الحاكم : قال لنا هذا الشيخ, وذكر الحديث, فكتبت المتن من نسخة مسموعة منه, فذكر حديثاً طويلاً يذكر فيه عدد الدرج والملائكة وغير ذلك مما لا ينكر شيء منها في قدرة الله إن صحت الرواية. قال البيهقي فيما ذكرنا قبل في حديث أبي هارون العبدي في إثبات الإسراء والمعراج كفاية, وبالله التوفيق. "قلت" وقد أرسل هذا الحديث غير واحد من التابعين وأئمة المفسرين رحمة الله عليهم أجمعين. قال البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ , أخبرني مكرم بن أحمد القاضي , حدثني إبراهيم بن الهيثم البلدي , حدثني محمد بن كثير الصنعاني , حدثنا معمر بن راشد عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: " لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الأقصى, أصبح يحدث الناس بذلك فارتد ناس ممن كانوا آمنوا به وصدقوه, وسعوا بذلك إلى أبي بكر , فقالوا: هل لك في صاحبك ؟ يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس, فقال: أو قال ذلك ؟ قالوا: نعم, قال: لئن كان قال ذلك لقد صدق, قالوا فتصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح ؟ قال نعم إني لأصدقه فيما هو أبعد من ذلك, أصدقه في خبر السماء في غدوة أو روحة, فلذلك سمي أبو بكر الصديق " .
قال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح باذان عن أم هانىء بنت أبي طالب في مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها كانت تقول: " ما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو في بيتي نائم عندي تلك الليلة, فصلى العشاء الاخرة ثم نام ونمنا, فلما كان قبيل الفجر أهبنا برسول الله صلى الله عليه وسلم فلما صلى الصبح وصلينا معه, قال: يا أم هانىء لقد صليت معكم العشاء الاخرة كما رأيت بهذا الوادي, ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه, ثم صليت صلاة الغداة معكم الان كما ترين" الكلبي متروك بمرة ساقط, لكن رواه أبو يعلى في مسنده عن محمد بن إسماعيل الأنصاري عن ضمرة بن ربيعة , عن يحيى بن أبي عمرو الشيباني عن أبي صالح , عن أم هانىء بأبسط من هذا السياق, فليكتب ههنا, وروى الحافظ أبو القاسم الطبراني من حديث عبد الأعلى بن أبي المساور عن عكرمة , عن أم هانىء قالت: بات رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به في بيتي, ففقدته من الليل, فامتنع مني النوم مخافة أن يكون عرض له بعض قريش, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن جبريل عليه السلام أتاني فأخذ بيدي فأخرجني, فإذا على الباب دابة دون البغل وفوق الحمار, فحملني عليها ثم انطلق حتى أتى بي إلى بيت المقدس, فأراني إبراهيم عليه السلام يشبه خلقه خلقي ويشبه خلقي خلقه, وأراني موسى آدم طويلاً سبط الشعر, شبهته برجال أزد شنوءة, وأراني عيسى بن مريم ربعة أبيض يضرب إلى الحمرة, شبهته بعروة بن مسعود الثقفي , وأراني الدجال ممسوح العين اليمنى, شبهته بقطن بن عبد العزى ـ قال ـ وأنا أريد أن أخرج إلى قريش فأخبرهم بما رأيت ، فأخذت بثوبه فقلت: إني أذكرك الله إنك تأتي قومك يكذبوك وينكرون مقالتك, فأخاف أن يسطوا بك, قالت: فضرب ثوبه من يدي ثم خرج إليهم, فأتاهم وهم جلوس فأخبرهم ما أخبرني, فقام جبير بن مطعم فقال يا محمد ان لو كنت لك شأن كما كنت ما تكلمت بما تكلمت به وأنت بين ظهرانينا. فقال رجل من القوم: يا محمد هل مررت بإبل لنا في مكان كذا كذا ؟ قال: نعم والله قد وجدتهم قد أضلوا بعيراً لهم فهم في طلبه قال: هل مررت بإبل فلان ؟ قال: نعم وجدتهم في مكان كذا وكذا وقد انكسرت لهم ناقة حمراء, وعندهم قصعة من ماء فشربت ما فيها قالوا: فأخبرنا عدتها, من الرعاة ؟ قال قد كنت عن عدتها مشغولاً فنام فأوتي بالإبل فعدها وعلم ما فيها من الرعاة, ثم أتى قريشاً فقال لهم سألتموني عن إبل بني فلان فهي كذا وكذا, وفيها من الرعاة فلان وفلان, وسألتموني عن إبل بني فلان, فهي كذا وكذا, وفيها من الرعاة ابن أبي قحافة وفلان وفلان, وهي تصبحكم بالغداة على الثنية قال: فقعدوا على الثنية ينظرون أصدقهم ما قال, فاستقبلوا الإبل فسألوهم: هل ضل لكم بعير ؟ فقالوا: نعم, فسألوا الاخر, هل انكسرت لكم ناقة حمراء ؟ قالوا: نعم, قالوا: فهل كانت عندكم قصعة ؟ قال أبو بكر : أنا والله وضعتها فما شربها أحد ولا أهرقوه في الأرض, فصدقه أبو بكر وآمن به, فسمي يومئذ الصديق " .
(فصل) وإذا حصل الوقوف على مجموع هذه الأحاديث صحيحها وحسنها وضعيفها, يحصل مضمون ما اتفقت عليه من مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس وأنه مرة واحدة, وإن اختلفت عبارات الرواة في أدائه, أو زاد بعضهم فيه أو نقص منه, فإن الخطأ جائز على من عدا الأنبياء عليهم السلام, ومن جعل من الناس كل رواية خالفت الأخرى مرة على حدة, فأثبت إسراءات متعددة فقد أبعد وأغرب, وهرب إلى غير مهرب, ولم يتحصل على مطلب. وقد صرح بعضهم من المتأخرين بأنه عليه السلام أسري به مرة من مكة إلى بيت المقدس فقط, ومرة من مكة إلى السماء فقط, ومرة إلى بيت المقدس ومنه إلى السماء, وفرح بهذا المسلك, وأنه قد ظفر بشيء يخلص به من الإشكالات, وهذا بعيد جداً, ولم ينقل هذا عن أحد من السلف ولو تعدد هذا التعدد, لأخبر النبي صلى الله عليه وسلم به أمته, ولنقله الناس على التعدد والتكرر.
قال موسى بن عقبة الزهري : كان الإسراء قبل الهجرة بسنة, وكذا قال عروة . وقال السدي : بستة عشر شهراً, والحق أنه عليه السلام أسري به يقظة لا مناماً من مكة إلى بيت المقدس راكباً البراق, فلما انتهى إلى باب المسجد, ربط الدابة عند الباب ودخله, فصلى في قبلته تحية المسجد ركعتين, ثم أتى بالمعراج وهو كالسلم ذو درج يرقى فيها, فصعد فيه إلى السماء الدنيا, ثم إلى بقية السموات السبع, فتلقاه من كل سماء مقربوها, وسلم على الأنبياء الذين في السموات بحسب منازلهم ودرجاتهم, حتى مر بموسى الكليم في السادسة, وإبراهيم الخليل في السابعة, ثم جاوز منزلتهما صلى الله عليه وسلم وعليهما وعلى سائر الأنبياء, حتى انتهى إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام, أي أقلام القدر بما هو كائن, ورأى سدرة المنتهى وغشيها من أمر الله تعالى عظمة عظيمة من فراش من ذهب وألوان متعددة وغشيتها الملائكة ورأى هناك جبريل على صورته وله ستمائة جناح ورأى رفرفاً أخضر قد سد الأفق, ورأى البيت المعمور, وإبراهيم الخليل باني الكعبة الأرضية مسند ظهره إليه, لأنه الكعبة السماوية يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة يتعبدون فيه ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة. ورأى الجنة والنار فرض الله عليه هنالك الصلوات خمسين ثم خففها إلى خمس رحمة منه ولطفاً بعباده, وفي هذا اعتناء عظيم بشرف الصلاة وعظمتها.
ثم هبط إلى بيت المقدس وهبط معه الأنبياء فصلى بهم فيه لما حانت الصلاة, ويحتمل أنها الصبح من يومئذ, ومن الناس من يزعم أنه أمهم في السماء, والذي تظاهرت به الروايات أنه ببيت المقدس, ولكن في بعضها أنه كان أول دخوله إليه. والظاهر أنه بعد رجوعه إليه لأنه لما مر بهم في منازلهم جعل يسأل عنهم جبريل واحداً واحداً, وهو يخبره بهم, وهذا هو اللائق, لأنه كان أولاً مطلوباً إلى الجناب العلوي ليفرض عليه وعلى أمته ما يشاء الله تعالى, ثم لما فرغ من الذي أريد به, اجتمع به هو وإخوانه من النبيين ثم أظهر شرفه وفضله عليهم بتقديمه في الإمامة, وذلك عن إشارة جبريل عليه السلام له في ذلك.
ثم خرج من بيت المقدس فركب البراق وعاد إلى مكة بغلس, والله سبحانه وتعالى أعلم, وأما عرض الانية عليه من اللبن والعسل أو اللبن والخمر, أو اللبن والماء أو الجميع فقد ورد أنه في بيت المقدس وجاء أنه في السماء. ويحتمل أن يكون ههنا وههنا, لأنه كالضيافة للقادم, والله أعلم, ثم اختلف الناس: هل كان الإسراء ببدنه عليه السلام وروحه, أو بروحه فقط ؟ على قولين, فالأكثرون من العلماء على أنه أسري ببدنه وروحه يقظة لا مناماً, ولا ينكرون أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قبل ذلك مناماً ثم رآه بعد يقظة, لأنه كان عليه السلام لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح, والدليل على هذا قوله تعالى: "سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله" فالتسبيح إنما يكون عند الأمور العظام, فلو كان مناماً لم يكن فيه كبير شيء, ولم يكن مستعظماً, ولما بادرت كفار قريش إلى تكذبيه, ولما ارتدت جماعة ممن كان قد أسلم, وأيضاً فإن العبد عبارة عن مجموع الروح والجسد, وقال تعالى "أسرى بعبده ليلا" وقال تعالى: "وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس" قال ابن عباس : هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به, والشجرة الملعونة هي شجرة الزقوم, رواه البخاري , وقال تعالى: " ما زاغ البصر وما طغى " والبصر من آلات الذات لا الروح, وأيضاً فإنه حمل على البراق وهو دابة بيضاء براقة لها لمعان, وإنما يكون هذا للبدن لا للروح لأنها لا تحتاج في حركتها إلى مركب تركب عليه, والله أعلم.
وقال آخرون بل أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم بروحه لا بجسده, قال محمد بن إسحاق بن يسار في السيرة: حدثني يعقوب بن عبتة بن المغيرة بن الأخنس أن معاوية بن أبي سفيان , كان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كانت رؤيا من الله صادقة. وحدثني بعض آل أبي بكر أن عائشة كانت تقول: ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن أسري بروحه. قال ابن إسحاق : فلم ينكر ذلك من قولها لقول الحسن إن هذه الاية نزلت "وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس" ولقول الله في الخبر عن إبراهيم "إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى" قال: ثم مضى على ذلك, فعرفت أن الوحي يأتي للأنبياء من الله أيقاظاً ونياماً, فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تنام عيناي وقلبي يقظان" والله أعلم, أي ذلك كان قد جاءه وعاين من الله فيه ما عاين على أي حالاته كان نائماً أو يقظاناً, كل ذاك حق وصدق, انتهى كلام ابن إسحاق . وقد تعقبه أبو جعفر بن جرير في تفسيره بالرد والإنكار والتشنيع بأن هذا خلاف ظاهر سياق القرآن, وذكر من الأدلة على رده بعض ما تقدم, والله أعلم.
روى الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في كتاب دلائل النبوة من طريق محمد بن عمر الواقدي : حدثني مالك بن أبي الرجال عن عمرو بن عبد الله عن محمد بن كعب القرظي , قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم دحية بن خليفة إلى قيصر, فذكر وروده عليه وقدومه إليه, وفي السياق دلالة عظيمة على وفور عقل هرقل, ثم استدعى من بالشام من التجار فجيء بأبي سفيان صخر بن حرب وأصحابه, فسألهم عن تلك المسائل المشهورة التي رواها البخاري ومسلم كما سيأتي بيانه, وجعل أبو سفيان يجهد أن يحقر أمره وتصغره عنده. قال في هذا السياق عن أبي سفيان: والله ما منعني من أن أقول عليه قولاً أسقطه من عينه إلا أني أكره أن أكذب عنده كذبة يأخذها علي ولا يصدقني في شيء. قال: حتى ذكرت قوله ليلة أسري به, قال: فقلت أيها الملك ألا أخبرك خبراً تعرف أنه قد كذب ؟ قال: وما هو ؟ قال: قلت إنه يزعم لنا أنه خرج من أرضنا, أرض الحرم, في ليلة فجاء مسجدكم هذا مسجد إيلياء, ورجع إلينا تلك الليلة قبل الصباح. قال, وبطريق إيلياء عند رأس قيصر, فقال بطريق إيلياء: قد علمت تلك الليلة, قال: فنظر إليه قيصر وقال: وما علمك بهذا ؟ قال: إني كنت لا أنام ليلة حتى أغلق أبواب المسجد, فلما كان تلك الليلة أغلقت الأبواب كلها غير باب واحد غلبني, فاستعنت عليه بعمالي ومن يحضرني كلهم فعالجته, فغلبنا فلم نستطع أن نحركه كأنما نزاول به جبلاً, فدعوت إليه النجاجرة, فنظروا إليه فقالوا: إن هذا الباب سقط عليه النجاف والبنيان, ولا نستطيع أن نحركه حتى نصبح فننظر من أين أتى. قال: فرجعت وتركت البابين مفتوحين. فلما أصبحت غدوت عليها, فإذا الحجر الذي في زاوية المسجد مثقوب, وإذا فيه أثر مربط دابة, قال: فقلت لأصحابي ما حبس هذا الباب الليلة إلا على نبي, وقد صلى الليلة في مسجدنا, وذكر تمام الحديث.
(فائدة) قال الحافظ أبو الخطاب عمر بن دحية في كتابه (التنوير في مولد السراج المنير) وقد ذكر حديث الإسراء من طريق أنس وتكلم عليه فأجاد وأفاد, ثم قال: وقد تواترت الروايات في حديث الإسراء عن عمر بن الخطاب وعلي وابن مسعود وأبي ذر ومالك بن صعصعة وأبي هريرة وأبي سعيد وابن عباس, وشداد بن أوس وأبي بن كعب وعبد الرحمن بن قرط وأبي حبة وأبي ليلى الأنصاريين, وعبد الله بن عمرو وجابر وحذيفة وبريدة, وأبي أيوب وأبي أمامة وسمرة بن جندب وأبي الحمراء, وصهيب الرومي وأم هانىء, وعائشة وأسماء ابنتي أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين, منهم من ساقه بطوله, ومنهم من اختصره على ما وقع في المسانيد, وإن لم تكن رواية بعضهم على شرط الصحة, فحديث الإسراء أجمع عليه المسلمون, وأعرض عنه الزنادقة والملحدون "يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون".
لما ذكر تعالى أنه أسرى بعبده محمد صلى الله عليه وسلم عطف بذكر موسى عبده ورسوله وكليمه أيضاً, فإنه تعالى كثيراً ما يقرن بين ذكر موسى ومحمد عليهما من الله الصلاة والسلام, وبين ذكر التوراة والقرآن, ولهذا قال بعد ذكر الإسراء "وآتينا موسى الكتاب" يعني التوراة "وجعلناه" أي الكتاب "هدى" أي هادياً " لبني إسرائيل أن لا تتخذوا " أي لئلا تتخذوا "من دوني وكيلاً" أي ولياً ولا نصيراً ولا معبوداً دوني, لأن الله تعالى أنزل على كل نبي أرسله أن يعبده وحده لا شريك له.
ثم قال: "ذرية من حملنا مع نوح" تقديره يا ذرية من حملنا مع نوح, فيه تهييج وتنبيه على المنة, أي يا سلالة من نجينا فحملنا مع نوح في السفينة تشبهوا بأبيكم "إنه كان عبداً شكوراً" فاذكروا أنتم نعمتي عليكم بإرسالي إليكم محمداً صلى الله عليه وسلم وقد ورد في الحديث وفي الأثر عن السلف أن نوحاً عليه السلام كان يحمد الله على طعامه وشرابه ولباسه وشأنه كله, فلهذا سمي عبداً شكوراً. قال الطبراني : حدثني علي بن عبد العزيز , حدثنا أبو نعيم , حدثنا سفيان عن أبي حصين , عن عبد الله بن سنان عن سعد بن مسعود الثقفي قال: إنما سمي نوح عبداً شكوراً, لأنه كان إذا أكل أو شرب حمد الله.
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو أسامة , حدثنا زكريا بن أبي زائدة عن سعيد بن أبي بردة , عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة أو يشرب الشربة فيحمد الله عليها" وهكذا رواه مسلم والترمذي والنسائي من طريق أبي أسامة به. وقال مالك عن زيد بن أسلم : كان يحمد الله على كل حال وقد ذكر البخاري هنا حديث أبي زرعة عن أبي هريرة , عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ـ بطوله, وفيه ـ فيأتون نوحاً فيقولون: يا نوح إنك أنت أول الرسل إلى أهل الأرض, وقد سماك الله عبداً شكوراً, فاشفع لنا إلى ربك" وذكر الحديث بكامله.
2- "وآتينا موسى الكتاب" أي التوراة، قيل والمعنى: كرمنا محمداً بالمعراج وأكرمنا موسى بالكتاب "وجعلناه" أي ذلك الكتاب، وقيل موسى "هدىً لبني إسرائيل" يهتدون به " أن لا تتخذوا ". قرأ أبو عمرو بالياء التحتية، وقرأ الباقون بالفوقية: أي لئلا يتخذوا. والمعنى: آتيناه الكتاب لهداية بني إسرائيل لئلا يتخذوا "من دوني وكيلاً" قال الفراء: أي كفيلاً بأمورهم، وروي عنه أنه قال كافياً، وقيل معناه: أي متوكلون عليه في أمورهم، وقيل شريكاً، ومعنى الوكيل في اللغة من توكل إليه الأمور.
2 - قوله عز وجل : " وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل أن لا " ، بأن لا ، " تتخذوا من دوني وكيلاً " ، رباً وكفيلاً .
قال أبو عمرو ( لا تتخذوا ) بالياء ، لأنه خبر عنهم ، والآخرون : بالتاء ، يعني : قلنا لهم لا تتخذوا .
2." وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل أن لا تتخذوا "على أن لا تتخذوا كقولك :كتبت إليك إن افعل كذا . وقرأ أبو عمروبالياء على أن لا يتخذوا ."من دوني وكيلاً"رباً تكلون إليه أموركم غيري.
2. We gave unto Moses the Scripture, and We appointed it a guidance for the Children of Israel, saying: Choose no guardian beside Me.
2 - We gave Moses the Book, and made it a guide to the children of Israel, (commanding): take not other than me as disposer of (your) affairs.