[النحل : 128] إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ
128 - (إن الله مع الذين اتقوا) الكفر والمعاصي (والذين هم محسنون) بالطاعة والصبر بالعون والنصر
يقول تعالى ذكره "إن الله" يا محمد "مع الذين اتقوا" الله في محارمه فاجتنبوها ، وخافوا عقابه عليها ، فأجحموا عن التقدم عليها "والذين هم محسنون" يقول :وهو مع الذين يحسنون رعاية فرائضه ، والقيام بحقوقه ، ولزوم طاعته فيما أمرهم به ونهاهم عنه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن سفيان ، عن رجل ، عن الحسن : "إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون" قال : اتقوا الله فيما حرم عليهم ، وأحسنوا فيما افترض عليهم .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال :أخبرنا معمر ، عن رجل ، عن الحسن ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ،عن قتادة ،قال : ذكر لنا أن هرم بن حيان العبدي لما حضره الموت ، قيل له : أوص ، قال : ما أدري ما أوصي ، ولكن بيعوا درعي ، فاقضوا عني ديني ، فإن لم تف ، فبيعوا فرسي ، فإن لم يف فبيعوا غلامي ، وأوصيكم بخواتيم سورة النحل "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين * وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين" ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية قال : بل نصبر .
قوله تعالى " إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون "
يأمر تعالى بالعدل في القصاص والمماثلة في استيفاء الحق, كما قال عبد الرزاق عن الثوري عن خالد, عن ابن سيرين أنه قال في قوله تعالى: "فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به" إن أخذ منكم رجل شيئاً فخذوا مثله, وكذا قال مجاهد وإبراهيم والحسن البصري وغيرهم واختاره ابن جرير. وقال ابن زيد: كانوا قد أمروا بالصفح عن المشركين فأسلم رجال ذوو منعة فقالوا: يارسول الله لو أذن الله لنا لا نتصرنا من هؤلاء الكلاب. فنزلت هذه الاية, ثم نسخ ذلك بالجهاد.
وقال محمد بن إسحاق عن بعض أصحابه عن عطاء بن يسار قال: نزلت سورة النحل كلها بمكة, وهي مكية إلا ثلاث آيات من آخرها نزلت بالمدينة بعد أحد حين قتل حمزة رضي الله عنه ومثل به, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لئن أظهرني الله عليهم لأمثلن بثلاثين رجلاً منهم" فلما سمع المسلمون ذلك قالوا: والله لئن ظهرنا عليهم لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط, فأنزل الله "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به" إلى آخر السورة, وهذا مرسل وفيه رجل مبهم لم يسم.
وقد روي هذا من وجه آخر متصل, فقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا الحسن بن يحيى, حدثنا عمرو بن عاصم, حدثنا صالح المري عن سليمان التيمي عن أبي عثمان, عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول لله صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه حين استشهد, فنظر إلى منظر لم ينظر إلى منظر أوجع للقلب منه, أو قال لقلبه, فنظر إليه وقد مثل به, فقال: "رحمة الله عليك إن كنت ما علمتك إلا وصولاً للرحم, فعولاً للخيرات, والله لولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أتركك حتى يحشرك الله من بطون السباع ـ أو كلمة نحوها ـ أما والله على ذلك لأمثلن بسبعين كمثلتك" فنزل جبريل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وسلم بهذه السورة وقرأ " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به " إلى آخر الاية, فكفر رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني عن يمينه وأمسك عن ذلك, وهذا إسناد فيه ضعف, لأن صالحاً هو ابن بشير المري ضعيف عند الأئمة, وقال البخاري: هو منكر الحديث, وقال الشعبي وابن جريج: نزلت في قول المسلمين يوم أحد فيمن مثل بهم لنمثلن بهم فأنزل الله فيهم ذلك.
وقال عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه: حدثنا هدية بن عبد الوهاب المروزي, حدثنا الفضل بن موسى, حدثنا عيسى بن عبيد عن الربيع بن أنس عن أبي العالية, عن أبي بن كعب قال: لما كان يوم أحد قتل من الأنصار ستون رجلاً, ومن المهاجرين ستة, فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : لئن كان لنا يوم مثل هذا من المشركين لنربين عليهم, فلما كان يوم الفتح قال رجل: لا تعرف قريش بعد اليوم, فنادى مناد: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمن الأسود والأبيض إلا فلاناً وفلاناً ـ ناساً سماهم ـ فأنزل الله تبارك وتعالى " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به " إلى آخر السورة, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نصبر ولا نعاقب" وهذه الاية الكريمة لها أمثال في القرآن, فإنها مشتملة على مشروعية العدل والندب إلى الفضل كما في قوله: "وجزاء سيئة سيئة مثلها" ثم قال: "فمن عفا وأصلح فأجره على الله" الاية. وقال: "والجروح قصاص" ثم قال "فمن تصدق به فهو كفارة له" وقال في هذه الاية: "وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به" ثم قال "ولئن صبرتم لهو خير للصابرين".
وقوله تعالى: "واصبر وما صبرك إلا بالله" تأكيد للأمر بالصبر وإخبار بأن ذلك لا ينال إلا بمشيئة الله وإعانته, وحوله وقوته, ثم قال تعالى: "ولا تحزن عليهم" أي على من خالفك فإن الله قدر ذلك "ولا تك في ضيق" أي غم "مما يمكرون" أي مما يجهدون أنفسهم في عداوتك وإيصال الشر إليك, فإن الله كافيك وناصرك ومؤيدك ومظهرك ومظفرك بهم. وقوله: "إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون" أي معهم بتأييده ونصره ومعونته وهديه وسعيه وهذه معية خاصة كقوله: "إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا" وقوله لموسى وهارون: " لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى" وقول النبي صلى الله عليه وسلم للصديق وهما في الغار: " لا تحزن إن الله معنا" وأما المعية العامة فبالسمع والبصر والعلم, كقوله تعالى: " وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير " وكقوله تعالى: " ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا " وكما قال تعالى: " وما تكون في شأن وما تتلوا منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا " الاية, ومعنى "الذين اتقوا" أي تركوا المحرمات, "والذين هم محسنون" أي فعلوا الطاعات, فهؤلاء الله يحفظهم ويكلؤهم وينصرهم ويؤيدهم ويظفرهم على أعدائهم ومخالفيهم, وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا محمد بن بشار, حدثنا أبو أحمد الزبيري, حدثنا مسعر عن عون عن محمد بن حاطب: كان عثمان رضي الله عنه من الذين اتقوا والذين هم محسنون.
آخر تفسير سورة النحل ، ولله الحمد والمنة وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً .
ثم ختم هذه السورة بآية جامعة لجميع المأمورات والمنهيات فقال: 128- "إن الله مع الذين اتقوا" أي اتقوا المعاصي على اختلاف أنواعها "والذين هم محسنون" بتأدية الطاعات والقيام بما أمروا بها منها، وقيل المعنى: إن الله مع الذين اتقوا الزيادة في العقوبة، والذين هم محسنون في أصل الانتقام فيكون الأول إشارة إلى قوله: "فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به" والثاني إشارة إلى قوله " ولئن صبرتم لهو خير للصابرين " وقيل "الذين اتقوا" إشارة إلى التعظيم لأمر الله "والذين هم محسنون" إشارة إلى الشفقة على عباد الله تعالى.
وقد أخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن مسعود: أنه سئل عن الأمة ما هي؟ فقال: الذي يعلم الناس الخير. قالوا: فما القانت؟ قال: الذي يطيع الله ورسوله. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: "إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله" قال: كان على الإسلام ولم يكن في زمانه من قومه أحد على الإسلام غيره، فلذلك قال الله "كان أمة قانتاً لله". وأخرج ابن المنذر عنه في قوله: "كان أمة" قال: إماماً في الخير "قانتاً" قال: مطيعاً. وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد تشهد له أمة إلا قبل الله شهادتهم" والأمة الرجل فما فوقه، إن الله يقول: "إن إبراهيم كان أمة" والأمة الرجل فما فوقه. وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي عن ابن عمرو قال صلى جبريل بإبراهيم الظهر والعصر بعرفات ثم وقف حتى إذا غابت الشمس دفع به، ثم صلى المغرب والعشاء بجمع ثم صلى الفجر به كأسرع ما يصلي أحدكم من المسلمين ثم وقف به حتى إذا كان كأبطإ ما يصلي أحد من المسلمين دفع به، ثم رمى الجمرة ثم ذبح ثم حلق ثم أفاض به إلى البيت فطاف به، فقال الله لنبيه: "ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً" وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه" قال: أراد الجمعة فأخذوا السبت مكانها. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق السدي عن أبي مالك وسعيد بن جبير في الآية قال: باستحلالهم إياه، رأى موسى رجلاً يحمل حطباً يوم السبت فضرب عنقه: وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، ثم هذا يومهم الذي فرض عليهم: يعني الجمعة، فاختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس فيه لنا تبع، اليهود غداً والنصارى بعد غد". وأخرج مسلم وغيره من حديث حذيفة نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: "وجادلهم بالتي هي أحسن" قال: أعرض عن أذاهم إياك. وأخرج الترمذي وحسنه وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن خزيمة في الفوائد وابن حبان والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل والضياء في المختارة عن أبي بن كعب قال: "لما كان يوم أحد أصيب من الأنصار أربعة وستون رجلاً، ومن المهاجرين ستة منهم حمزة فمثلوا بهم، فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يوماً مثل هذا لنربين عليهم، فلما كان يوم فتح مكة أنزل الله تعالى: " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نصبر ولا نعاقب، كفوا عن القوم إلا أربعة". وأخرج ابن سعد والبزار وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه وأبو نعيم في المعرفة وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة "أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة حيث استشهد، فنظر إلى منظر لم ينظر إلى شيء قط كان أوجع لقلبه منه، ونظر إليه قد مثل به، فقال: رحمة الله عليك، فإنك كنت ما علمت وصولاً للرحم فعولاً للخير، ولولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أتركك حتى يحشرك الله من أرواح شتى، أما والله لأمثلن بسبعين منهم مكانك، فنزل جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بخواتيم سورة النحل "وإن عاقبتم" الآية، فكفر النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه وأمسك عن الذي أراد وصبر". وأخرج ابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس مرفوعاً نحوه. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: "وإن عاقبتم" الآية، قال: هذا حين أمر الله نبيه أن يقاتل من قاتله، ثم نزلت براءة وانسلاخ الأشهر الحرم فهذا منسوخ. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله: "إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون" قال: اتقوا فيما حرم عليهم وأحسنوا فيما افترض عليهم.
128 - " إن الله مع الذين اتقوا " ، المناهي ، " والذين هم محسنون " بالعون والنصرة .
128."إن الله مع الذين اتقوا"المعاصي."والذين هم محسنون"في أعمالهم بالولاية والفضل ، أو مع الذين اتقوا الله بتعظيم أمره والذين هم محسنون بالشفقة على خلقه ."عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة النحل لم يحاسبه الله بما أنعم عليه في دار الدنيا وإن مات في يوم تلاها أو ليلة كان له من الأجر كالذي مات وأحسن الوصية."
128. Lo! Allah is with those who keep their duty unto Him and those who are doers of good.
128 - For God is with those who restrain themselves, and those who do good.