[يوسف : 5] قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ
5 - (قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً) يحتالون في هلاكك حسداً لعلمهم بتأويلها من أنهم الكواكب والشمس أمك والقمر أبوك (إن الشيطان للإنسان عدو مبين) ظاهر العداوة
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : قال يعقوب لابنه يوسف : "يا بني لا تقصص رؤياك" ، هذه ، "على إخوتك" ، فيحسدوك ، "فيكيدوا لك كيدا" ، يقول : فيبغوك الغوائل ، ويناصبوك العداوة ، ويطيعوا فيك الشيطان ، "إن الشيطان للإنسان عدو مبين" ، يقول : إن الشيطان لآدم وبنيه عدو ، قد أبان لهم عداوته وأظهرها . يقول : فاحذر الشيطان أن يغري إخوتك بك بالحسد منهم لك ، إن أنت قصصت عليهم رؤياك .
وإنما قال يعقوب ذلك ، لأنه قد كان تبين له من إخوته قبل ذلك حسداً كما :
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو بن محمد العنقزي ، عن أسباط ، عن السدي قال : نزل يعقوب الشأم ، فكان همه يوسف وأخاه ، فحسده إخوته لما رأوا حب أبيه له . ورأى يوسف في المنام كأن أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رآهم له ساجدين ، فحدث أباه بها ، فقال : "يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا" ، الآية .
واختلف أهل العربية في وجه دخول اللام في قوله "فيكيدوا لك كيدا" .
فقال بعض نحويي البصرة : معناه : فيتخذوا لك كيداً ، وليست مثل : ( إن كنتم للرؤيا تعبرون ) ، تلك أراد أن يوصل الفعل إليها باللام ، كما يوصل بالباء ، كما تقول : قدمت له طعاما ، تريد قدمت إليه ، وقال : ( يأكلن ما قدمتم لهن ) ، ومثله قوله : ( قل الله يهدي للحق ) . قال : وإن شئت كان "فيكيدوا لك كيدا" ، في معنى : فيكيدوك ، وتجعل اللام مثل : ( لربهم يرهبون ) . وقد قال لربهم يرهبون ، إنما هو بمكان : ربهم يرهبون .
وقال بعضهم : أدخلت اللام في ذلك ، كما تدخل في قولهم : حمدت لك و شكرت لك ، و حمدتك و شكرتك . وقال : هذه لام جلبها الفعل ، فكذلك قوله : "فيكيدوا لك كيدا" ، تقول : فيكيدوك ، أو : يكيدوا لك ، فيقصدوك ، ويقصدوا لك . قال : و "كيدا" ، توكيد .
فيه إحدى عشرة مسألة:
الأولى: قوله تعالى: " فيكيدوا لك كيدا " أي يحتالوا في هلاكك، لأن تأويلها ظاهر، فربما يحملهم الشيطان على قصدك بسوء حينئذ. واللام في ( لك) تأكيد، كقوله: " إن كنتم للرؤيا تعبرون " ( يوسف: 43).
الثانية: الرؤيا حالة شريفة، ومنزلة رفيعة، قال صلى الله عليه وسلم: " لم يبق بعدي من المبشرات إلا الرؤيا الصالحة الصادقة يراها الرجل الصالح أو ترى له ". وقال: " أصدقكم رؤيا أصدقكم حديثاً ". وحكم صلى الله عليه وسلم بأنها جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، وروي " من سبعين جزءاً من النبوة ". وروي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما " جزءاً من أربعين جزءاً من النبوة ". ومن حديث ابن عمرو " جزء من تسعة وأربعين جزءاً ". ومن حديث العباس " جزء من خمسين جزءاً من النبوة ". ومن حديث انس " من ستة وعشرين ".
وعن عبادة بن الصامت: " من أربعة وأربعين من النبوة ". والصحيح منها حديث الستة والأربعين، ويتلوه في الصحة حديث السبعين، ولم يخرج مسلم في صحيحه غير هذين الحديثين، أما سائرها فمن أحاديث الشيوخ، قاله ابن بطال. قال أبو عبد الله المازري : والأكثر والأصح عند أهل الحديث " من ستة وأربعين ". قال الطبري : والصواب أن يقال إن عامة هذه الأحاديث أو أكثرها صحاح، ولكل حديث منها مخرج معقول، فأما قوله: " إنها جزء من سبعين جزءاً من النبوة " فإن ذلك قول عام في كل رؤيا صالحة صادقة، ولكل مسلم رآها في منامه على أي أحواله كان، وأما قوله: ( إنها من أربعين - أو - ستة وأربعين) فإنه يريد بذلك من كان صاحبها بالحال التي ذكرت عن الصديق - رضي الله عنه - أنه كان بها، فمن كان من أهل إسباغ الوضوء في السبرات، والصبر في الله على المكروهات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فرؤياه الصالحة - إن شاء الله - جزء من أربعين جزءاً من النبوة، ومن كانت حاله في ذاته بين ذلك فرؤياه الصادقة بين جزءين، ما بين الأربعين إلى الستين، لا تنقص عن سبعين، وتزيد على الأربعين، وإلى هذا المعنى أشار أبو عمر بن عبد البر فقال: اختلاف الآثار في هذا الباب في عدد أجزاء الرؤيا ليس ذلك عندي اختلاف متضاد متدافع - والله أعلم - لأنه يحتمل أن تكون الرؤيا الصالحة من بعض من يراها على حسب ما يكون من صدق الحديث، وأداء الأمانة، والدين المتين، وحسن اليقين، فعلى قدر اختلاف الناس فيما وصفنا تكون الرؤيا منهم على الأجزاء المختلفة العدد، فمن خلصت نيته في عبادة ربه ويقينه وصدق حديثه، كانت رؤياه أصدق، وإلى النبوة أقرب: كما أن الأنبياء يتفاضلون، قال الله تعالى: " ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض " ( الإسراء: 55).
قلت: فهذا التأويل يجمع شتات الأحاديث، وهو أولى من تفسير بعضها دون بعض وطرحه، ذكره أبو سعيد الأسفاقسي عن بعض أهل العلم قال: معنى قوله: جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة فإن الله تعالى أوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم في النبوة ثلاثة وعشرين عاماً - فيما رواه عكرمة وعمرو بن دينار عن ابن عباس رضي الله عنهما - فإذا نسبنا ستة أشهر من ثلاثة وعشرين عاماً وجدنا ذلك جزءاً من ستة وأربعين جزءاً، وإلى هذا القول أشار المازري في كتابه المعلم واختاره الغزنوي في تفسيره من سورة ( يونس) عند قوله تعالى: " لهم البشرى في الحياة الدنيا " ( يونس: 64). وهو فاسد من وجهين: أحدهما - ما رواه أبو سلمة عن ابن عباس وعائشة بأن مدة الوحي كانت عشرين سنة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث على رأس أربعين، فأقام بمكة عشر سنين، وهو قول عروة و الشعبي وابن شهاب والحسن وعطاء الخراساني وسعيد بن المسيب على اختلاف عنه، وهي رواية ربيعة وأبي غالب عن أنس، وإذا ثبت هذا الحديث بطل ذلك التأويل - الثاني: أن سائر الأحاديث في الأجزاء المختلفة تبقى بغير معنى.
الثالثة: إنما كانت الرؤيا جزءاً من النبوة، لأن فيها ما يعجز ويمتنع كالطيران، وقلب الأعيان، والاطلاع على شيء من علم الغيب، كما قال عليه السلام: " إنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصادقة في النوم " الحديث. وعلى الجملة فإن الرؤيا الصادقة من الله، وأنها من النبوة، قال صلى الله عليه وسلم: " الرؤيا من الله والحلم من الشيطان " وأن التصديق بها حق، ولها التأويل الحسن، وربما أغنى بعضها عن التأويل، وفيها من بديع الله ولطفه ما يزيد المؤمن في إيمانه، ولا خلاف في هذا بين أهل الدين والحق من أهل الرأي والأثر، ولا ينكر الرؤيا إلا أهل الإلحاد وشرذمة من المعتزلة.
الرابعة: إن قيل: إذا كانت الرؤيا الصادقة جزءاً من النبوة فكيف يكون الكافر والكاذب والمخلط أهلاً لها؟ وقد وقعت من بعض الكفار وغيرهم ممن لا يرضى دينه منامات صحيحة صادقة، كمنام رؤيا الملك الذي رآى سبع بقرات، ومنام الفتيين في السجن، ورؤيا بختنصر، التي فسرها دانيال في ذهاب ملكه، ورؤيا كسرى في ظهور النبي صلى الله عليه وسلم، ومنام عاتكة، عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمره وهي كافرة، وقد ترجم البخاري ( باب رؤيا أهل السجن) - فالجواب أن الكافر والفاجر والفاسق والكاذب وإن صدقت رؤياهم في بعض الأوقات لا تكون من الوحي ولا من النبوة، إذ ليس كل من صدق في حديث عن غيب يكون خبره ذلك نبوة، وقد تقدم في ( الأنعام) أن الكاهن وغيره قد يخبر بكلمة الحق فيصدق، لكن ذلك على الندور والقلة، فكذلك رؤيا هؤلاء، قال المهلب: إنما ترجم البخاري بهذا لجواز أن تكون رؤيا أهل الشرك رؤيا صادقة، كما كانت رؤيا الفتيين صادقة، إلا أنه لا يجوز أن تضاف إلى النبوة إضافة رؤيا المؤمن إليها، إذ ليس كل ما يصح له تأويل من الرؤيا حقيقة يكون جزءاً من النبوة.
الخامسة: الرؤيا المضافة إلى الله تعالى هي التي خلصت من الأضغاث والأوهام، وكان تأويلها موافقاً لما في اللوح المحفوظ، والتي هي من خبر الأضغاث هي الحلم، وهي المضافة إلى الشيطان، وإنما سميت ضغثاً، لأن فيها أشياء متضادة، قال معناه المهلب. وقد قسم رسول الله صلى الله عليه سلم الرؤيا أقساماً تغني عن قول كل قائل، روى عوف بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الرؤيا ثلاثة منها أهاويل الشيطان ليحزن ابن آدم ومنها ما يهتم به في يقظته فيراه في منامه ومنها جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة ". قال قلت: سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال:نعم! سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
السادسة: قوله تعالى: " قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك " الآية. الرؤيا مصدر رأى في المنام، رؤيا على وزن فعلى كالسقيا والبشرى، وألفه للتأنيث ولذلك لم ينصرف. وقد اختلف العلماء في حقيقة الرؤيا، فقيل: هي إدراك في أجزاء لم تحلها آفة، كالنوم المستغرق وغيره، ولهذا أكثر ما تكون الرؤيا في آخر الليل لقلة غلبة النوم، فيخلق الله تعالى للرائي علماً ناشئاً، ويخلق له الذي يراه على ما يراه ليصح الإدراك، قال ابن العربي : ولا يرى في المنام إلا ما يصح إدراكه في اليقظة، ولذلك لا يرى في المنام شخصاً قائماً قاعداً بحال، وإنما يرى الجائزات المعتادات. وقيل: إن الله ملكاً يعرض المرئيات على المحل المدرك من النائم، فيمثل له صوراً محسوسة، فتارة تكون تلك الصور أمثلة موافقة لما يقع في الوجود، وتارة تكون لمعاني معقولة غير محسوسة، وفي الحالتين تكون مبشرة أو منذرة، قال صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم وغيره: " رأيت امرأة سوداء ثائرة الرأس تخرج من المدينة إلى مهيعة فأولتها الحمى ". و " رأيت سيفي قد انقطع صدره وبقراً تنحر فأولتهما رجل من أهل بيتي يقتل والبقر نفر من أصحابي يقتلون ". و " رأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة ". و " رأيت في يد سوارين فأولتهما كذابين يخرجان بعدي ". إلى غير ذلك مما ضربت له الأمثال، ومنها ما يظهر معناه أولاً فأولا، ومنها ما لا يظهر إلا بعد التفكر، وقد رأى النائم في زمن يوسف عليه السلام بقراً فأولها يوسف السنين، ورأى أحد عشر كوكباً والشمس والقمر فأولها بإخوته وأبويه.
السابعة: إن قيل: إن يوسف عليه السلام كان صغيراً وقت رؤياه، والصغير لا حكم لفعله، فكيف تكون له رؤيا لها حكم حتى يقول له أبوه: ( لا تقصص رؤياك على إخوتك)؟ فالجواب - أن الرؤيا إدراك حقيقة على ما قدمناه، فتكون من الصغير كما يكون منه الإدراك الحقيقى في اليقظة، وإذا أخبر عما رأى صدق، فكذلك إذا أخبر عما يرى في المنام، وقد أخبر الله سبحانه عن رؤياه وأنها وجدت كما رأى فلا اعتراض، روي أن يوسف عليه السلام كان ابن اثنتي عشرة سنة.
الثامنة: هذه الآية أصل في ألا تقص الرؤيا على غير شفيق ولا ناصح، ولا على من لا يحسن التأويل فيها.
روى أبو رزين العقيلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الرؤيا جزء من أربعين جزءاً من النبوة " و " الرؤيا معلقة برجل طائر ما لم يحدث بها صاحبها فإذا حدث بها وقعت فلا تحدثوا بها إلا عاقلاً أو محباً أو ناصحاً " أخرجه الترمذي وقال فيه: حديث حسن صحيح، وأبو رزين اسمه لقيط بن عامر. وقيل لمالك : أيعبر الرؤيا كل أحد؟ فقال: أبالنبوة يلعب؟ وقال مالك : لا يعبر الرؤيا إلا من يحسنها، فإن رأى خيراً أخبر به، وإن رأى مكروهاً فليقل خيراً أو ليصمت، قيل: فهل يعبرها على الخير وهي عنده على المكروه لقول من قال إنها على ما تأولت عليه؟ فقال: لا‍! ثم قال: الرؤيا جزء من النبوة فلا يتلاعب بالنبوة.
التاسعة: وفي هذه الآية دليل على أن مباحاً أن يحذر المسلم أخاه المسلم ممن يخافه عليه، ولا يكون داخلاً في معنى الغيبة، لأن يعقوب - عليه السلام - قد حذر يوسف أن يقص رؤياه على أخوته فيكيدوا له كيداً، وفيها أيضاً ما يدل على جواز ترك إظهار النعمة عند من تخشى غائلته حسداً وكيداً، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " استعينوا على إنجاح حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود ". وفيها أيضاً دليل واضح على معرفة يعقوب عليه السلام بتأويل الرؤيا، فإنه علم من تأويلها أنه سيظهر عليهم، ولم يبال بذلك من نفسه، فإن الرجل يود أن يكون ولده خيراً منه، والأخ لا يود ذلك لأخيه. ويدل أيضاً على أن يعقوب عليه السلام كان أحس من بنيه حسد يوسف وبغضه، فنهاه عن قصص الرؤيا عليهم خوف أن تغل بذلك صدورهم، ذلك الوقت، ووقع في كتاب الطبري لابن زيد أنهم كانوا أنبياء، وهذا يرده القطع بعصمة الأنبياء عن الحسد الدنيوي، وعن عقوق الآباء، وتعريض مؤمن للهلاك، والتآمر في قتله، ولا التفات لقول من قال إنهم كانوا أنبياء، ولا يستحيل في العقل زلة نبي، إلا أن هذه الزلة قد جمعت أنواعاً من الكبائر، وقد أجمع المسلمون على عصمتهم منها، وإنما اختلفوا في الصغائر على ما تقدم ويأتي.
العاشرة: روى البخاري عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لم يبق من النبوة إلا المبشرات قالوا: وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة " وهذا الحديث بظاهره يدل على أن الرؤيا بشرى على الإطلاق وليس كذلك، فإن الرؤيا الصادقة قد تكون منذرة من قبل الله تعالى لا تسر رائيها، وإنما يريها الله تعالى المؤمن رفقاً به ورحمة، ليستعد لنزول البلاء قبل وقوعه، فإن أدرك تأولها بنفسه، وإلا سأل عنها من له أهلية ذلك. وقد رأى الشافعي رضي الله عنه وهو بمصر رؤيا لأحمد بن حنبل تدل على محنته فكتب إليه بذلك ليستعد لذلك، وقد تقدم في ( يونس) في تفسير قوله تعالى: " لهم البشرى في الحياة الدنيا " ( يونس: 64) أنها الرؤيا الصالحة. وهذا وحديث البخاري مخرجه على الأغلب، والله أعلم.
الحادية عشرة: روى البخاري عن أبي سلمة قال: " لقد كنت أرى الرؤيا فتمرضني حتى سمعت أبا قتادة يقول: وأنا كنت لأرى الرؤيا فتمرضني حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الرؤيا الحسنة من الله فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث به إلا من يحب وإذا رأى ما يكره فليتعوذ بالله من شرها وليتفل ثلاث مرات ولا يحدث بها أحداً فإنها لن تضره ". قال علماؤنا: فجعل الله الاستعاذة منها مما يرفع أذاها، ألا ترى قول أبي قتادة: إني كنت لأرى الرؤيا هي أثقل علي من الجبل، فلما سمعت بهذا الحديث كنت لا أعدها شيئاً. وزاد مسلم من رواية جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثاً وليتعوذ بالله من الشيطان ثلاثاً وليتحول عن جنبه الذي كان عليه ". وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا رأى أحدكم ما يكره فليقم فليصل ". قال علماؤنا: وهذا كله ليس بمتعارض، وإنما هذا الأمر بالتحول، والصلاة زيادة، فعلى الرائي أن يفعل الجميع، والقيام إلى الصلاة يشمل الجميع، لأنه إذا صلى تضمن فعله للصلاة جميع تلك الأمور، لأنه إذا قام إلى الصلاة تحول عن جنبه، وإذا تمضمض تفل وبصق، وإذا قام إلى الصلاة تعوذ ودعا وتضرع لله تعالى في أن يكفيه شرها في حال هي أقرب الأحوال إلى الإجابة، وذلك السحر من الليل.
يقول تعالى مخبراً عن قول يعقوب لابنه يوسف حين قص عليه ما رأى من هذه الرؤيا التي تعبيرها خضوع إخوته له, وتعظيمهم إياه تعظيماً زائداً بحيث يخرون له ساجدين إجلالاً واحتراماً وإكراماً, فخشي يعقوب عليه السلام أن يحدث بهذا المنام, أحداً من إخوته فيحسدونه على ذلك, فيبغون له الغوائل حسداً منهم له, ولهذا قال له: "لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً" أي يحتالوا لك حيلة يردونك فيها, ولهذا ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا رأى أحدكم ما يحب فليحدث به, وإذا رأى ما يكره فليتحول إلى جنبه الاخر, وليتفل عن يساره ثلاثاً, وليستعذ بالله من شرها, ولا يحدث بها أحداً فإنها لن تضره" وفي الحديث الاخر الذي رواه الإمام أحمد وبعض أهل السنن من رواية معاوية بن حيدة, القشيري أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر, فإذا عبرت وقعت" ومن هذا يؤخذ الأمر بكتمان النعمة حتى توجد وتظهر, كما ورد في حديث "استعينوا على قضاء الحوائج بكتمانها, فإن كل ذي نعمة محسود".
5- "قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك" الرؤيا مصدر رأى في المنام رؤيا على وزن فعلى كالسقيا والبشرى، وألفه للتأنيث ولذلك لم يصرف، نهى يعقوب عليه السلام ابنه يوسف عن أن يقص رؤياه على إخوته، لأنه قد علم تأويلها وخاف أن يقصها على إخوته فيفهمون تأويلها ويحصل منهم الحسد له، ولهذا قال: "فيكيدوا لك كيداً" وهذا جواب النهي وهو منصوب بإضمار أن: أي فيفعلوا لك: أي لأجلك كيداً مثبتاً راسخاً لا تقدر على الخلوص منه، أو كيداً خفياً عن فهمك، وهذا المعنى الحاصل بزيادة اللام آكد من أن يقال فيكيدوا كيداً، وقيل إنما جيء باللام لتضمينه معنى الاحتيال المتعدي باللام، فيفيد هذا التضمين معنى الفعلين جميعاً الكيد والاحتيال كما هو القاعدة في التضمين أن يقدر أحدهما أصلاً والآخر حالاً، وجملة "إن الشيطان للإنسان عدو مبين" مستأنفة، كأن يوسف عليه السلام قال: كيف يقع منهم، فنبهه بأن الشيطان يحملهم على ذلك، لأنه عدو للإنسان مظهر للعداوة مجاهر بها.
5-"قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك"، وذلك أن رؤيا الأنبياء عليهم السلام وحي فعلم يعقوب أن الأخوة إذا سمعوها حسدوه فأمره بالكتمان، "فيكيدوا لك كيدا"، فيحتالوا في إهلاكك لأنهم يعلمون تأويلها فيحسدونك. واللام في قوله "لك"صلة، كقوله تعالى: "لربهم يرهبون" (الأعراف-154). وقيل: هو مثل قولهم نصحتك ونصحت لك، وشكرتك وشكرت لك. "إن الشيطان للإنسان عدو مبين"، أي: يزين لهم الشيطان، ويحملهم على الكبد، لعداوته القديمة.
أخبرنا عبد الواحد بن المليحي، أنبأنا عبد الرحمن بن أبي شريح، أنبأنا أبو القاسم البغوي، حدثنا علي ابن الجعد، أنبأنا شعبة عن عبد ربه بن سعيد قال: سمعت أبا سلمة قال: كنت أرى الرؤيا تهمني حتى سمعت أبا قتادة يقول: كنت أرى الرؤيا فتمرضني، حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "الرؤيا الصالحة من الله تعالى، والحلم من الشيطان، فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث به إلا من يحب، وإذا رأى ما يكره فليتعوذ بالله من شرها، ومن شر الشيطان وليتفل ثلاثا، ولا يحدث به أحدا فإنها لن تضر".
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنبأنا عبد الرحمن بن أبي شريح، أنبأنا أبو القاسم البغوي، حدثنا علي بن الجعد، أنبأنا شعبة عن يعلى بن عطاء، عن وكيع بن عدس، عن أبي رزين العقيلي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الرؤيا جزء من أربعين أو ستة وأربعين جزءا من النبوة وهو على رجل طائر فإذا حدث بها وقعت، وأحسبه قال: لا تحدث بها إلا حبيبا أو لبيبا".
5."قال يا بني"تصغير ابن صغره للشفقة أو لصغر السن لأنه كان ابن اثنتي عشرة سنة .وقرأ حفصهنا وفي الصافات بفتح الياء "لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً" فيحتالوا لإهلاكك حيلة ، فهم يعقوب عليه السلام من رؤياه أن الله يصطفيه لرسالته ويفوقه على إخوته، فخاف عليه حسدهم وبغيهم والرؤيا كالرؤية غير أنها مختصة بما يكون في النوم ، فرق بينهما بحرفي التأنيث كالقربة والقربى وهي انطباع الصورة المنحدرة من أفق المتخيلة إلى الحس المشترك ، والصادقة منها إنما تكون باتصال النفس بالملكوت لما بينهما من التناسب عند فراغها من تدبير البدن أدنى فراغ ، فتتصور بما فيها مما يليق بها من المعاني الحاصلة هناك، ثم إن المتخيلة تحاكيه بصورة تناسبه فترسلها إلى الحس المشترك فتصير مشاهدة ، ثم إن كانت شديدة المناسبة لذلك المعنى بحيث لا يكون التفاوت إلا بالكلية والجزئية استغنت الرؤيا عن التعبير وإلا احتاجت إليه، وإنما عدي كاد باللام وهو متعد بنفسه لتضمنه معنى فعل يعدى به تأكيداً ولذلك أكد بالمصدر وعلله بقوله : "إن الشيطان للإنسان عدو مبين" ظاهر العداوة لما فعل بآدم عليه السلام وحواء فلا يألو جهداً في تسويلهم وإثارة الحسد فيهم حتى يحملهم على الكيد.
5. He said: O my dear son! Tell not thy brethren of thy vision. lest they plot a plot against thee. Lo! Satan is for man an open foe.
5 - Said (the father): my (dear) little son relate not thy vision to thy brothers, lest they concoct a plot against thee; for Satan is to man an avowed enemy