[يوسف : 34] فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
34 - (فاستجاب له ربه) دعاءه (فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع) للقول (العليم) بالفعل
قال أبو جعفر : إن قال قائل : وما وجه قوله : "فاستجاب له ربه" ، ولا مسألة تقدمت من يوسف لربه ، ولا دعا بصرف كيدهن عنه ، وإنما أخبر ربه أن السجن أحب إليه من معصيته ؟
قيل : إن في إخباره بذلك شكايةً منه إلى ربه مما لقي منهن ، وفي قوله : "وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن" ، معنى دعاء ومسألة منه ربه صرف كيدهن ،ولذلك قال الله تعالى ذكره :"فاستجاب له ربه" ، وذلك كقول القائل لآخر : إن لا تزرني أهنك ، فيجيبه الآخر : إذا أزورك ، لأن في قوله : إن لا تزرني أهنك ، معنى الأمر بالزيارة .
قال أبو جعفر :وتأويل الكلام : فاستجاب الله ليوسف دعاءه ، فصرف عنه ما أرادت منه امرأة العزيز وصواحباتها من معصية الله ، كما :
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ،عن ابن إسحاق : "فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم" ، أي نجاه من أن يركب المعصية فيهن ،وقد نزل به بعض ما حذر منهن .
وقوله :"إنه هو السميع" ، دعاء يوسف حين دعاه بصرف كيد النسوة عنه ، ودعاء كل داع من خلقه ، "العليم" ، بمطلبه وحاجته وما يصلحه ، وبحاجة جميع خلقه وما يصلحهم .
قوله تعالى: " فاستجاب له ربه " لما قال. " وإلا تصرف عني كيدهن " تعرض للدعاء، وكأنه قال: اللهم اصرف عني كيدهن، فاستجاب له دعاءه، ولطف به وعصمه عن الوقوع في الزنى. ( كيدهن) قيل: لأنهن جمع قد راودنه عن نفسه. وقيل: يعني كيد النساء. وقيل: يعني كيد امرأة العزيز، على ما ذكر في الآية قبل، والعموم أولى.
يخبر تعالى أن خبر يوسف وامرأة العزيز, شاع في المدينة وهي مصر حتى تحدث به الناس "وقال نسوة في المدينة" مثل نساء الكبراء والأمراء, ينكرن على امرأة العزيز وهو الوزير ويعبن ذلك عليها "امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه" أي تحاول غلامها عن نفسه وتدعوه إلى نفسها "قد شغفها حباً" أي قد وصل حبه إلى شغاف قلبها وهو غلافه. قال الضحاك عن ابن عباس: الشغف الحب القاتل, والشغف دون ذلك, والشغاف حجاب القلب "إنا لنراها في ضلال مبين" أي في صنيعها هذا من حبها فتاها ومراودتها إياه عن نفسه, "فلما سمعت بمكرهن" قال بعضهم: بقولهن ذهب الحب بها, وقال محمد بن إسحاق: بل بلغهن حسن يوسف, فأحببن أن يرينه, فقلن ذلك ليتوصلن إلى رؤيته ومشاهدته, فعند ذلك "أرسلت إليهن" أي دعتهن إلى منزلها لتضيفهن " وأعتدت لهن متكئا ". قال ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والحسن والسدي وغيرهم: هو المجلس المعد فيه مفارش, ومخاد, وطعام فيه ما يقطع بالسكاكين من أترج ونحوه, ولهذا قال تعالى: "وآتت كل واحدة منهن سكيناً" وكان هذا مكيدة منها ومقابلة لهن في احتيالهن على رؤيته "وقالت اخرج عليهن" وذلك أنها كانت قد خبأته في مكان آخر "فلما" خرج " رأينه أكبرنه " أي أعظمنه أي أعظمن شأنه, وأجللن قدره, وجعلن يقطعن أيديهن دهشاً برؤيته, وهن يظنن أنهن يقطعن الأترج بالسكاكين, والمراد أنهن حززن أيديهن بها, قاله غير واحد, وعن مجاهد وقتادة: قطعن أيديهن حتى ألقينها, فالله أعلم.
وقد ذكر غير واحد أنها قالت لهن بعد ما أكلن وطابت أنفسهن, ثم وضعت بين أيديهن أترجاً وآتت كل واحدة منهن سكيناً: هل لكن في النظر إلى يوسف ؟ قلن: نعم, فبعثت إليه تأمره أن اخرج إليهن, فلما رأينه جعلن يقطعن أيديهن, ثم أمرته أن يرجع ليرينه مقبلاً ومدبراً, فرجع وهن يحززن في أيديهن, فلما أحسسن بالألم جعلن يولولن, فقالت: أنتن من نظرة واحدة فعلتن هذا, فكيف ألام أنا ؟ " وقلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم " ثم قلن لها: وما نرى عليك من لوم بعد هذا الذي رأينا, لأنهن لم يرين في البشر شبيهه ولا قريباً منه, فإنه عليه السلام كان قد أعطي شطر الحسن كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح في حديث الإسراء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بيوسف عليه السلام في السماء الثالثة, قال "فإذا هو قد أعطي شطر الحسن" وقال حماد بن سلمة, عن ثابت, عن أنس, قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعطي يوسف وأمه شطر الحسن". وقال سفيان الثوري, عن أبي إسحاق, عن أبي الأحوص, عن عبد الله بن مسعود قال: أعطي يوسف وأمه ثلث الحسن. وقال أبو إسحاق أيضاً, عن أبي الأحوص, عن عبد الله, قال: كان وجه يوسف مثل البرق, وكانت المرأة إذا أتته لحاجة غطى وجهه مخافة أن تفتتن به. ورواه الحسن البصري مرسلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أعطي يوسف وأمه ثلث حسن أهل الدنيا, وأعطي الناس الثلثين", أو قال "أعطي يوسف وأمه الثلثين والناس الثلث". وقال سفيان, عن منصور, عن مجاهد عن ربيعة الجرشي قال: قسم الحسن نصفين فأعطي يوسف وأمه سارة نصف الحسن, والنصف الاخر بين سائر الخلق.
وقال الإمام أبو القاسم السهيلي: معناه أن يوسف عليه السلام كان على النصف من حسن آدم عليه السلام, فإن الله خلق آدم بيده على أكمل صورة وأحسنها, ولم يكن في ذريته من يوازيه في جماله, وكان يوسف قد أعطي شطر حسنه, فلهذا قال هؤلاء النسوة عند رؤيته " حاش لله ". قال مجاهد وغير واحد: معاذ الله "ما هذا بشراً", وقرأ بعضهم ما هذا بشري أي بمشترى بشراء "إن هذا إلا ملك كريم * قالت فذلكن الذي لمتنني فيه" تقول هذا معتذرة إليهن بأن هذا حقيق أن يحب لجماله وكماله, "ولقد راودته عن نفسه فاستعصم" أي فامتنع. قال بعضهم: لما رأين جماله الظاهر أخبرتهن بصفاته الحسنة التي تخفى عنهن, وهي العفة مع هذا الجمال, ثم قالت تتوعده "ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكوناً من الصاغرين" فعند ذلك استعاذ يوسف عليه السلام من شرهن وكيدهن, و"قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه" أي من الفاحشة "وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن" أي إن وكلتني إلى نفسي فليس لي منها قدرة ولا أملك لها ضراً ولا نفعاً إلا بحولك وقوتك, أنت المستعان وعليك التكلان, فلا تكلني إلى نفسي " أصب إليهن وأكن من الجاهلين * فاستجاب له ربه " الاية, وذلك أن يوسف عليه السلام عصمه الله عصمة عظيمة, وحماه فامتنع منها أشد الامتناع, واختار السجن على ذلك, وهذا في غاية مقامات الكمال أنه مع شبابه وجماله وكماله تدعوه سيدته, وهي امرأة عزيز مصر, وهي مع هذا في غاية الجمال والمال والرياسة, ويمتنع من ذلك ويختار السجن على ذلك خوفاً من الله ورجاء ثوابه.
ولهذا ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل, وشاب نشأ في عبادة الله, ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه, ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه, ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه, ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله, ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه".
وقوله 34- "فاستجاب له ربه" لما قال: وإلا تصرف عني كيدهن كان ذلك منه تعرضا للدعاء، وكأنه قال: اللهم اصرف عني كيدهن، فالاستجابة من الله تعالى له هي بهذا الاعتبار، لانه لم يتقدم دعاء صادق منه عليه السلام، والمعنى: أنه لطف به وعصمه عن الوقوع في المعصية، لأنه إذا صرف عنه كيدهن لم يقع شيء مما رمنه منه، ووجه إسناد الكيد قد تقدم، وجملة "إنه هو السميع العليم" تعليل لما قبلها من صرف كيد النسوة عنه: أي إنه هو السميع لدعوات الداعين له: العليم بأحوال الملتجئين إليه.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: "قد شغفها" قال: غلبها. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه "قد شغفها" قال: قتلها حب يوسف، الشغف: الحب القاتل، والشغف: حب دون ذلك، والشغاف: حجاب القلب. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً "قد شغفها" قال: قد علقها. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: "فلما سمعت بمكرهن" قال: بحديثهن. وأخرج ابن أبي حاتم عن سفيان "فلما سمعت بمكرهن" قال: بعلمهن، وكل مكر في القرآن فهو عمل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في قوله: " وأعتدت لهن متكئا " قال: هيأت لهن مجلساً، وكان سنتهم إذا وضعوا المائدة أعطوا كل إنسان سكيناً يأكل بها "فلما رأينه" قال: فلما خرج عليهن يوسف "أكبرنه" قال: أعظمنه ونظرن إليه، وأقبلن يحززن أيديهن بالسكاكين وهن يحسبن أنهن يقطعن الطعام. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس " وأعتدت لهن متكئا " قال: أعطنهن أترنجاً، وأعطت كل واحدة منهن سكيناً، فلما رأين يوسف أكبرنه، وجعلن يقطعن أيديهن وهن يحسبن أنهن يقطعن الأترنج. وأخرج مسدد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عنه المتكأ: الأترنج، وكان يقرأها خفيفة. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد " متكئا " قال: طعاماً. وأخرج أبو عبيد وابن المنذر عنه قال هو الأترنج. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال: هو كل شيء يقطع بالسكين. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن الضحاك مثله. وأخرج أبو الشيخ من طريق عبد العزيز بن الوزير بن الكميت بن زيد قال حدثني أبي عن جدي يقول في قوله "فلما رأينه أكبرنه" قال: أمنين، وأنشد:
ولما رأته الخيل من رأس شاهق صهلن وأمنين المني المدفقا
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جده ابن عباس في قوله "فلما رأينه أكبرنه" قال: لما خرج عليهن يوسف حضن من الفرح وذكر قول الشاعر الذي قدمنا ذكره:
نأثي النساء لدى أطهارهن
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جريروابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله: "أكبرنه" قال: أعظمنه "وقطعن أيديهن" قال: حزاً بالسكين حتى ألقينها " وقلن حاش لله " قال: معاذ الله. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله: " إن هذا إلا ملك كريم " قال: قلن ملك من الملائكة من حسنه. وأخرج أبو الشيخ عن منبه عن أبيه قال: مات من النسوة التي قطعن أيديهن تسع عشرة امرأة كمداً. وأخرج أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أعطي يوسف وأمه شطر الحسن، وقد وردت روايات عن جماعة من السلف في وصف حسن يوسف، والمبالغة في ذلك، ففي بعضها أنه أعطي نصف الحسن، وفي بعضها ثلثه، وفي بعضها ثلثيه، وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس "فاستعصم" قال: امتنع. وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن قتادة "فاستعصم" قال: فاستعصى. وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد في قوله: "وإلا تصرف عني كيدهن" قال: إن لا تكن منك أنت القوى والمنعة لا تكن مني ولا عندي. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ "أصب إليهن" قال: أتبعهن وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال: أطاوعهن.
34-"فاستجاب له" أجاب له. "ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم"، لدعائه العليم بمكرهن.
34."فاستجاب له ربه "فأجاب الله دعاءه الذي تضمنه قوله:"وإلا تصرف" "فصرف عنه كيدهن"فثبته بالعصمة حتى وطن نفسه على مشقة السجن وآثرها على اللذة المتضمنة للعصيان. "إنه هو السميع"لدعاء الملتجئين إله"العليم" بأحوالهم وما يصلحهم.
34. So his Lord heard his prayer and fended off their wiles from him. Lo! He is Nearer, Knower.
34 - So his Lord hearkened to him (in his prayer), and turned away from him their snare: verily he heareth and knoweth (all things).