[يوسف : 19] وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَـذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ
19 - (وجاءت سيارة) مسافرون من مدين إلى مصر فنزلوا قريبا من جب يوسف (فأرسلوا واردهم) الذي يرد الماء ليستقي منه (فأدلى) أرسل (دلوه) في البئر فتعلق بها يوسف فأخرجه فلما رآه (قال يا بشراي) وفي قراءة {بشرى} ونداؤها مجاز أي احضري فهذا وقتك (هذا غلام) فعلم به فأتوه (وأسروه) أي أخفوا أمره جاعليه (بضاعة) بأن قالوا هذا عبدنا أبق وسكت يوسف خوفا من أن يقتلوه (والله عليم بما يعملون)
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : وجاءت مارة الطريق من المسافرين ، "فأرسلوا واردهم" ، وهو الذي يرد المنهل والمنزل ، و وروده إياه ، مصيره إليه ، ودخوله ، "فأدلى دلوه" ، يقول : أرسل دلوه في البئر .
يقال : أدليت الدلو في البئر ، إذا أرسلتها فيها ، فإذا استقيت فيها قلت : لدوت أدلو دلوا .
وفي الكلام محذوف ، استغني بدلالة ما ذكر عليه ، فترك ، وذلك :"فأدلى دلوه" ، فتعلق به يوسف ، فخرج ، فقال المدلي : "يا بشرى هذا غلام" .
وبالذي قلنا في ذلك جاءت الأخبار عن أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو بن محمد ، عن أسباط ،عن السدي : "وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه" ، فتعلق يوسف بالحبل ، فخرج ، فلما رآه صاحب الحبل نادى رجلاً من أصحابه يقال له بشرى ، "يا بشرى هذا غلام" .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ،عن قتادة : "فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه" ، فتشبث الغلام بالدلو ، فلما خرج قال : "يا بشرى هذا غلام" .
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : "فأرسلوا واردهم" ، يقال : أرسلوا رسولهم ، فلما أدلى دلوه تشبث بها الغلام ، "قال يا بشرى هذا غلام" .
واختلفوا في معنى قوله : "يا بشرى هذا غلام" .
فقال بعضهم : ذلك تبشير من المدلي دلوه أصحابه ، في إصابته يوسف ، بأنه أصاب عبداً .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "قال يا بشرى هذا غلام" ، تباشروا به حين أخرجوه ، وهي بر بأرض بيت المقدس معلوم مكانها .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ،عن قتادة : "يا بشرى هذا غلام" ، قال : بشرهم واردهم حين وجد يوسف .
وقال آخرون : بل ذلك اسم رجل من السيارة بعينه ،ناداه المدلي لما خرج يوسف من البئر متعلقاً بالحبل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو بن محمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "يا بشرى هذا غلام" ، قال : نادى رجلاً من أصحابه يقال له بشرى ، فقال "يا بشرى هذا غلام" .
حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا خلف بن هشام قال ، حدثنا يحيى بن آدم ، عن قيس بن الربيع ، عن السدي في قوله : "يا بشرى هذا غلام" ، قال : كان اسم صاحبه بشرى .
حدثني المثنى قال ، حدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الرحن بن أبي حماد قال ، حدثنا الحكم بن ظهير ،عن السدي في قوله : "يا بشرى هذا غلام" ، قال : اسم الغلام بشرى ، قال : "يا بشرى" ، كما تقول : يا زيد .
واختلفت القرأة في قراءة ذلك :
فقرأ ذلك عامة قرأة المدينة : يا بشرى ، بإثبات ياء الإضافة ، غير أنه أدغم الألف في الياء طلباً للكسرة التي تلزم ما قبل ياء الإضافة من المتكلم ، في قوله : غلامي و جارتي ، في كل حال . وذلك من لغة طيىء ، كما قال أبو ذؤيب :
سبقوا هوي وأعنقوا لهواهم فتخرموا ولكل جنب مصرع
وقرأ ذلك عامة قرأ الكوفيين : "يا بشرى" ، بإرسال الياء وترك الإضافة .
وإذا قرىء ذلك كذلك ، احتل وجهين من التأويل :
أحدهما ما قاله السدي ، وهو أن يكون اسم رجل دعاه المستقي باسمه ،كما يقال : يا زيد و يا عمرو فيكون بشرى ، في موضع رفع بالنداء .
والآخر : أن يكون أراد إضافة البشرى إلى نفسه ، فحذف الياء وهو يريدها ، فيكون نفرداً وفيه نية الإضافة ، كما تفعل العرب في النداء فتقول : يا نفس اصبري ، و يا نفسي اصبري ، و يا بني لا تفعل ، و يا بني لا تفعل ، فتفرد وترفع ، و فيه نية الإضافة . وتضيف أحياناً فتكسر كما تقول : يا غلام أقبل ، و غلامي أقبل .
قال أبو جعفر : وأعجب القراءة في ذلك إلي ، قراءة من قرأه بإرسال الياء وتسكينها ، لأنه إن كان اسم رجل بعينه كان معروفاً فيهم ، كما قال السدي ، فتلك هي القراءة الصحيحة لا شك فيها ،وإن كان من التبشير ، فإنه يحتمل ذلك إذا قرىء كذلك ، على ما بينت .
وأما التشديد والإضافة في الياء ، فقراءة شاذة ، لا أرى القراءة بها ، وإن كانت لغة معروفة ، لإجماع الحجة من القرأة على خلافها .
وأما قوله : "وأسروه بضاعة" ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله .
فقال بعضهم : وأسره الوارد المستقي وأصحابه ،من التجار الذين كانوا معهم ، قالوا له : هو بضاعة استبضعناها بعض أهل مصر ، لأنهم خافوا إن علموا أنهم اشتروه به بما اشتروه به ، ان يطلبوا منهم فيه الشركة .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "وأسروه بضاعة" ، قال : صاحب الدلو ومن معه ،قالوا لأصحابهم : إنما استبضعناه ، خيفة أن يشركوهم فيه إن علموا بثمنه . وتبعهم إخوته يقولون للمدلي وأصحابه : استوثق منه ، لا يأبق ! حتى وقفوه بمصر فقال : من يبتاعني ويبشر ؟ فاشتراه الملك ، والملك مسلم .
حدثنا الحسن بن محمد قال ، حدثنا شبابة قال ، حدثنا ورقاء ،عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه ، غير أنه قال : خيفة أن يستشركوهم إن علموا به ، واتبعهم إخوته يقولون للمدلي وأصحابه : استوثقوا منه لا يأبق ! حتى واقفوه بمصر ، وسائر الحديث مثل حديث محمد بن عمرو .
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ... قال ، وحدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، بنحوه ، غير أنه قال : خيفة أن يشاركوهم فيه ، إن علموا بثمنه .
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، بنحوه ، إلا أنه قال : خيفة أن يستشركوهم فيه ، إن علموا ثمنه ،وقال أيضاً : حتى أوقفوه بمصر .
حدثنا ابن وكيع قال ، حدثنا عمرو بن محمد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي : "وأسروه بضاعة" ، قال : لما اشتراه الرجلان ، فرقاً من الرفقة أن يقولوا : اشتريناه ، فيسألونهم الشركة ، فقالا : إن سألونا : ما هذا ؟ قلنا : بضاعة استبضعناه أهل الماء . فذلك قوله : "وأسروه بضاعة" ، بينهم .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : وأسره التجار بعضهم من بعض .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا وكيع قال ، عن سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد : "وأسروه بضاعة" ، قال : أسره التجار بعضهم من بعض .
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو نعيم الفضل قال ، حدثنا سفيان ، عن مجاهد : "وأسروه بضاعة" ، قال : أسره التجار بعضهم من بعض .
وقال آخرون : معنى ذلك : أسروا بيعه .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسبن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ، عن قتادة : "وأسروه بضاعة" ، قال : أسروا بيعه .
حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا قيس ، عن جابر ، عن مجاهد : "وأسروه بضاعة" ، قال : قالوا لأهل الماء : إنما هو بضاعة .
وقال آخرون : إنما عنى بقوله : "وأسروه بضاعة" ، إخوة يوسف ، أنهم أسروا شأن يوسف أن يكون أخاهم ، قالوا : هو عبد لنا .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد قال ، حدثني أبي قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ،عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : "وأسروه بضاعة" ، يعني :أخوة يوسف ، أسروا شأنه ، وكتموا أن يكون أخاهم ، فكتم يوسف شأنه مخافة أن تقتله إخوته ، واختار البيع . فذكره إخوته لوارد القوم ، فنادى أصحابه قال : يا بشرى ! هذا غلام يباع ! فباعه إخوته .
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب ، قول من قال : وأسأر وارد القوم المدلي دلوه ومن معه من أصحابه ، من رفقته السيارة ، أمر يوسف أنهم اشتروه ، خيفةً منهم أن يستشركوهم ، وقالوا لهم : هو بضاعة أبضعها معنا أهل الماء وذلك أنه عقيب الخبر عنه ،فلأن يكون ما وليه من الخبر خبراً عنه ، اشبه من أن يكون خبراً عمن هو بالخبر عنه غير متصل .
وقوله : "والله عليم بما يعملون" ، يقول تعالى ذكره : والله ذو علم بما يعمله باعة يوسف ومشتروه في أمره ، لا يخفى عليه من ذلك شيء ، ولكنه ترك تغيير ذلك ليمضي فيه وفيهم حكمه السابق في علمه ، وليرى إخوة يوسف ويوسف وأباه قدرته فيه .
وهذا ، وإن كان خبراً من الله تعالى ذكره عن يوسف نبيه صلى الله عليه وسلم ، فإنه تذكير من الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ، وتسلية منه له ، عما كان يلقى من أقربائه وأنسبائه المشركين من الأذى فيه . يقول : فاصبر ، يا محمد ، على ما نالك في الله ، فإني قادر على تغيير ما ينالك به هؤلاء المشركون ، كما كنت قادراً على تغيير ما لقي يوسف من إخوته في حال ما كانوا يفعلون به ما فعلوا ، ولم يكن تركي ذلك لهوان يوسف علي ، ولكن لماضي علمي فيه وفي إخوته . فكذلك تركي تغيير ما ينالك به هؤلاء المشركون ، لغير هوان بك علي ، ولكن لسابق علمي فيك وفيهم ، ثم يصير أمرك وأمرهم إلى علوك عليهم ، وإذعانهم لك ، كما صار أمر إخوة يوسف إلى الأذعان ليوسف بالسؤدد عليهم ، وعلو يوسف عليهم .
قوله تعالى: " وجاءت سيارة " أي رفقة مارة يسيرون من الشام إلى مصر فأخطؤوا الطريق وهاموا حتى نزلوا قريباً من الجب، وكان الجب في قفرة بعيدة من العمران، إنما هو للرعاة والمجتاز، وكان ماؤه ملحاً فعذب حين ألقى فيه يوسف. " فأرسلوا واردهم " فذكر على المعنى، ولو قال: فأرسلت واردها لكان على اللفظ، مثل ( وجاءت). والوارد الذي يرد الماء يستقي للقوم، وكان اسمه - فيما ذكر المفسرون - مالك بن دعر، من العرب العاربة. " فأدلى دلوه " أي أرسله، يقال: أدلى دلوه إذا أرسلها ليملأها، ودلاها أي أخرجها: عن الأصمعي وغيره. ودلا - من ذات الواو - يدلو دلواً، أي جذب وأخرج، وكذلك أدلى إذا أرسل، فلما ثقل ردوه إلى الياء، لأنها أخف من الواو، قاله الكوفيون. وقال الخليل و سيبويه : لما جاوز ثلاثة أحرف رجع إلى الياء، اتباعاً للمستقبل. وجمع دلو في أقل العدد أدل فإذا كثرت قلت: دلي ودلي، فقلبت الواو ياء، إلا أن الجمع بابه التغيير، وليفرق بين الواحد والجمع، ودلاء أيضاً. فتعلق يوسف بالحبل، فلما خرج إذا غلام كالقمر ليلة البدر، أحسن ما يكون من الغلمان. قال صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء من صحيح مسلم : " فإذا أنا بيوسف إذا هو قد أعطي شطر الحسن ". وقال كعب الأحبار: كان يوسف حسن الوجه، جعد الشعر، ضخم العينين، مستوي الخلق، أبيض اللون، غليظ الساعدين والعضدين، خميص البطن، صغير السرة، إذا ابتسم رأيت النور من ضواحكه، وإذا تكلم رأيت في كلامه شعاع الشمس من ثناياه، لا يستطيع أحد وصفه، وكان حسنه كضوء النهار عند الليل، وكان يشبه آدم عليه السلام يوم خلقه الله ونفخ فيه من روحه قبل أن يصيب المعصية. وقيل: إنه ورث ذلك الجمال من جدته سارة، وكانت قد أعطيت سدس الحسن، فلما رآه مالك بن دعر قال: ( يا بشراي هذا غلام) هذا قراءة أهل المدينة وأهل البصرة، إلا ابن أبي إسحاق فإنه قرأ ( يا بشري هذا غلام) فقلب الألف ياء، لأن هذه الياء يكسر ما قبلها، فلما لم يجز كسر الألف كان قلبها عوضاً. وقرأ أهل الكوفة ( يا بشرى) غير مضاف، وفي معناه قولان: أحدهما - اسم الغلام، والثاني - معناه يا أيتها البشرى هذا حينك وأوانك. قال قتادة و السدي : لما أدلى المدلي دلوه تعلق بها يوسف فقال: يا بشرى هذا غلام، قال قتادة: بشر أصحابه بأنه وجد عبداً. وقال السدي : نادى رجلاً اسمه بشرى. قال النحاس : قول قتادة أولى، لأنه لم يأت في القرآن تسمية أحد إلا يسيراً، وإنما يأتي بالكناية كما قال عز وجل: " ويوم يعض الظالم على يديه " ( الفرقان: 27) وهو عقبة بن أبي معيط، وبعده " يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا " ( الفرقان: 28) وهو أمية بن خلف، قاله النحاس . والمعنى في نداء البشرى: التبشير لمن حضر، وهو أوكد من قولك تبشرت، كما تقول: يا عجباه! أي يا عجب هذا من أيامك ومن آياتك، فأحضر، وهذا مذهب سيبويه ، وكذا قال السهيلي . وقيل: هو كما تقول: واسروراه! وإن البشرى مصدر من الاستبشار، وهذا أصح، لأنه لو كان اسماً علماً لم يكن مضافاً إلى ضمير المتكلم، وعلى هذا يكون ( بشراي) في موضع نصب، لأنه نداء مضاف، ومعنى النداء ها هنا التنبيه، أي انتبهوا لفرحتي وسروري، وعلى قول السدي يكون في موضع رفع كما تقول: يا زيد هذا غلام. ويجوز أن يكون محله نصباً كقولك: يا رجلاً‍‍!، وقوله: " يا حسرة على العباد " ( يس: 30) ولكنه لم ينون ( بشرى) لأنه لا ينصرف. " وأسروه بضاعة " الهاء كناية عن يوسف عليه السلام، فأما الواو فكناية عن إخوته. وقيل: عن التجار الذين اشتروه، وقيل: عن الوارد وأصحابه. ( بضاعة) نصب على الحال. قال مجاهد: أسره مالك بن دعر وأصحابه من التجار الذي معهم في الرفقة، وقالوا لهم: هو بضاعة استبضعناها بعض أهل الشام أو أهل هذا الماء إلى مصر، وإنما قالوا هذا خيفة الشركة. وقال ابن عباس: أسره إخوة يوسف بضاعة لما استخرج من الجب، وذلك أنهم جاءوا فقالوا: بئس ما صنعتم! هذا عبد لنا أبق، وقالوا ليوسف بالعبرانية: إما أن تقر لنا بالعبودية فنبيعك من هؤلاء، وإما أن نأخذك فنقتلك، فقال: أنا أقر لكم بالعبودية، فأقر لهم فباعوه منهم. وقيل: إن يهوذا وصى أخاه يوسف بلسانهم أن اعترف لإخوتك بالعبودية فإنى أخشى إن لم تفعل قتلوك، فعل الله أن يجعل لك مخرجاً، وتنجو من القتل، فكتم يوسف شأنه مخافة أن يقتله إخوته، فقال مالك: والله ما هذا سمة العبيد!، قالوا: هو تربى في حجورنا، وتخلق بأخلاقنا، وتأدب بآدابنا، فقال: ما تقول يا غلام؟ قال: صدقوا! تربيت في حجورهم، وتخلقت بأخلاقهم، فقال مالك: إن بعتموه مني اشتريته منكم، فباعوه منه، فذلك:
يقول تعالى مخبراً عما جرى ليوسف عليه السلام حين ألقاه إخوته وتركوه في ذلك الجب وحيداً فريداً, فمكث في البئر ثلاثة أيام فيما قاله أبو بكر بن عياش, وقال محمد بن إسحاق: لما ألقاه إخوته جلسوا حول البئر يومهم ذلك, ينظرون ماذا يصنع وما يصنع به, فساق الله له سيارة, فنزلوا قريباً من تلك البئر, وأرسلوا واردهم وهو الذي يتطلب لهم الماء, فلما جاء ذلك البئر وأدلى دلوه فيها, تشبث يوسف عليه السلام فيها فأخرجه واستبشر به, وقال: "يا بشرى هذا غلام". وقرأ بعض القراء يا بشراي, فزعم السدي أنه اسم رجل, ناداه ذلك الرجل الذي أدلى دلوه معلماً له أنه أصاب غلاماً, وهذا القول من السدي غريب لأنه لم يسبق إلى تفسير هذه القراءة بهذا إلا في رواية عن ابن عباس, والله أعلم, وإنما معنى القراءة على هذا النحو يرجع إلى القراءة الأخرى, ويكون قد أضاف البشرى إلى نفسه وحذف ياء الإضافة, وهو يريدها كما تقول العرب: يا نفس اصبري ويا غلام أقبل, بحذف حرف الإضافة, ويجوز الكسر حينئذ والرفع, وهذا منه, وتفسرها القراءة الأخرى يا بشراي, والله أعلم.
وقوله: "وأسروه بضاعة" أي وأسره الواردون من بقية السيارة وقالوا: اشتريناه وتبضعناه من أصحاب الماء مخافة أن يشاركوهم فيه إذا علموا خبره, قاله مجاهد والسدي وابن جرير: هذا قول, وقال العوفي عن ابن عباس قوله: "وأسروه بضاعة" يعني إخوة يوسف أسروا شأنه, وكتموا أن يكون أخاهم, وكتم يوسف شأنه مخافة أن يقتله إخوته, واختار البيع فذكره إخوته لوارد القوم, فنادى أصحابه "يا بشرى هذا غلام" يباع فباعه إخوته.
وقوله: "والله عليم بما يعملون" أي عليم بما يفعله إخوة يوسف ومشتروه, وهو قادر على تغيير ذلك ودفعه, ولكن له حكمة وقدر سابق, فترك ذلك ليمضي ما قدره وقضاه "ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين" وفي هذا تعريض لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وإعلام له بأني عالم بأذى قومك لك, وأنا قادر على الإنكار عليهم, ولكني سأملي لهم ثم أجعل لك العاقبة والحكم عليهم, كما جعلت ليوسف الحكم والعاقبة على إخوته.
وقوله: "وشروه بثمن بخس دراهم معدودة" يقول تعالى: وباعه إخوته بثمن قليل. قاله مجاهد وعكرمة والبخس: هو النقص, كما قال تعالى: "فلا يخاف بخساً ولا رهقاً" أي اعتاض عنه إخوته بثمن دون قليل, ومع ذلك كانوا فيه من الزاهدين أي ليس لهم رغبة فيه, بل لو سئلوه بلا شيء لأجابوا. قال ابن عباس ومجاهد والضحاك: إن الضمير في قوله: "وشروه" عائد على إخوة يوسف. وقال قتادة: بل هو عائد على السيارة. والأول أقوى, لأن قوله: "وكانوا فيه من الزاهدين" إنما أراد إخوته لا أولئك السيارة, لأن السيارة استبشروا به وأسروه بضاعة, ولو كانوا فيه زاهدين لما اشتروه, فترجح من هذا أن الضمير في "شروه" إنما هو لإخوته. وقيل: المراد بقوله "بخس" الحرام. وقيل: الظلم, هذا وإن كان كذلك لكن ليس هو المراد هنا, لأن هذا معلوم يعرفه كل أحد أن ثمنه حرام على كل حال وعلى كل أحد لأنه نبي ابن نبي ابن نبي ابن خليل الرحمن فهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم, وإنما المراد هنا بالبخس الناقص أو الزيوف أو كلاهما, أي إنهم إخوته وقد باعوه, ومع هذا بأنقص الأثمان, ولهذا قال "دراهم معدودة", فعن ابن مسعود رضي الله عنه: باعوه بعشرين درهماً, وكذا قال ابن عباس ونوف البكالي والسدي وقتادة وعطية العوفي, وزاد اقتسموها درهمين درهمين. وقال مجاهد: اثنان وعشرون درهماً. وقال محمد بن إسحاق وعكرمة: أربعون درهماً. وقال الضحاك في قوله "وكانوا فيه من الزاهدين" وذلك أنهم لم يعلموا نبوته ومنزلته عند الله عز وجل, وقال مجاهد: لما باعوه جعلوا يتبعونهم ويقولون لهم: استوثقوا منه لا يأبق, حتى وقفوه بمصر فقال: من يبتاعني وليبشر ؟ فاشتراه الملك وكان مسلماً.
هذا شروع في حكاية خلاص يوسف وما بعد ذلك من خبره، وقد تقدم تفسير السيارة، والمراد بها هنا رفقة مارة تسير من الشام إلى مصر، فأخطأوا الطريق وهاموا حتى نزلوا قريباً من الجب، وكان في قفرة بعيدة عن العمران، والوارد الذي يرد الماء ليستقي للقوم، وكان اسمه فيما ذكر المفسرون مالك بن ذعر من العرب العاربة "فأدلى دلوه" أي أرسله، يقال أدلى دلوه: أذا أرسلها ليملأها، ودلاها: إذا أخرجها قاله الأصمعي وغيره. فتعلق يوسف بالحبل، فلما خرج الدلو من البئر أبصره الوارد فـ " قال يا بشرى " هكذا قرأ أهل المدينة وأهل مكة وأهل البصرة، وأهل الشام بإضافة البشرى إلى الضمير، وقرأ أهل الكوفة "يا بشرى" غير مضاف، ومعنى مناداته للبشرى: أنه أراد حضورها في ذلك الوقت، فكأنه قال: هذا وقت مجيئك وأوان حضورك، وقيل إنه نادى رجلاً اسمه بشرى. والأول أولى. قال النحاس: والمعنى من نداء البشرى التبشير لمن حضر، وهو أوكد من قولك بشرته كما تقول يا عجباً: أي يا عجب هذا من أيامك فاحضر. قال: وهذا مذهب سيبويه "وأسروه" أي أسر الوارد وأصحابه الذين كانوا معه يوسف فلم يظهروه لهم، وقيل إنهم لم يخفوه، بل أخفوا وجدانه لهم في الجب، وزعموا أنه دفعه إليهم أهل الماء ليبيعوه لهم بمصر، وقيل ضمير الفاعل في أسروه لإخوة يوسف، وضمير المفعول ليوسف، وذلك أنه كان يأتيه أخوه يهوذا كل يوم بطعام، فأتاه يوم خروجه من البئر فأخبر إخوته فأتوا الرفقة وقالوا: هذا غلام ابق منا فاشتروه منهم، وسكت يوسف مخافة أن يأخذوه فيقتلوه. والأول أولى. وانتصاب بضاعة على الحال: أي أخفوه حال كونه بضاعة: أي متاعاً للتجارة، والبضاعة: ما يبضع من المال: أي يقطع منه لأنها قطعة من المال الذي يتجر به، قيل قاله لهم الوارد وأصحابه أنه بضاعة استبضعناها من الشام مخافة أن يشاركوهم فيه، وفي قوله: " والله عليم بما يعملون " وعيد شديد لمن كان فعله سبباً لما وقع فيه يوسف من المحن وما صار فيه من الابتذال بجري البيع والشراء فيه، وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم في وصفه بذلك.
19-"وجاءت سيارة"، وهم القوم المسافرون، سموا سيارة لأنهم يسيرون في الأرض، كانت رفقة من مدين تريد مصر، فأخطأوا الطريق فنزلوا قريبا من الجب، وكان في قفر بعيد من العمران للرعاة والمارة، وكان ماؤه مالحا فعذب حين ألقي يوسف عليه السلام فيه، فلما نزلوا أرسلوا رجلا من أهل مدين يقال له مالك بن ذعر، لطلب الماء فذلك قوله عز وجل: "فأرسلوا واردهم" والوارد الذي يتقدم الرفقة إلى الماء فيهيئ الأرشية والدلاء.
"فأدلى دلوه"، أي: أرسلها في البئر، يقال: أدليت الدلو إذا أرسلتها في البئر، ودلوتها إذا أخرجتها، فتعلق يوسف بالحبل فلما خرج إذا هو بغلام أحسن ما يكون.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أعطي يوسف شطر الحسن".
ويقال: إنه ورث ذلك الجمال من جدته سارة، وكانت قد أعطيت سدس الحسن.
قال إبن إسحاق ذهب يوسف وأمه بثلثي الحسن.
فلما رآه مالك بن ذعر، "قال يا بشرى"، قرأ الأكثرون هكذا بالألف وفتح الياء، بشر المستقي أصحابه يقول: أبشروا. وقرأ أهل الكوفة: يا بشرة، بغير إضافة، يريد نادى المستقي رجلا من أصحابه اسمه بشرى. "هذا غلام" وروى ابن مجاهد عن أبيه: أن جدران البئر كانت تبكي على يوسف حين أخرج منها. "وأسروه"، أخفوه، "بضاعةً"، قال مجاهد: أسره مالك بن ذعر وأصحابه من التجار الذين معهم وقالوا هو بضاعة استبضعها بعض أهل الماء إلى مصر خيفة أن يطلبوا منهم فيه المشاركة.
وقيل: أراد أن إخوة يوسف أسروا/ شأن يوسف وقالوا هذا عبد لنا أبق.
قال الله تعالى: "والله عليم بما يعملون"، فأتى يهوذا يوسف بالطعام فلم يجده في البئر، فأخبر بذلك إخوته، فطلبوه فإذا هم بمالك وأصحابه نزولا، فأتوهم فإذا هم بيوسف، فقالوا هذا عبد آبق منا.
ويقال: إنهم هددوا يوسف حتى لم يعرف حاله. وقال مثل قولهم، ثم باعوه، فذلك قوله عز وجل:
19."وجاءت سيارة"رفقة يسيرون من مدين إلى مصر فنزلوا قريباً منت الجب وكان ذلك بعد ثلاث من إلقاءه فيه ."فأرسلوا واردهم"الذي يرد الماء ويستقي لهم وكان مالك بن ذعر الخزاعي "فأدلى دلوه"فأرسلها في الجب ليملأها فتدلى بها يوسف فلما رآه . "قال يا بشرى هذا غلام"نادى البشرى بشارة لنفسه أو لقومه كأنه قال تعال فهذا أوانك . وقيل هو اسم لصاحب له ناداه ليعينه على إخراجه . وقرأ غير الكوفيين يا بشراي بالإضافة ، وأمال فتحة الراء حمزة والكسائي وقرأ ورش بين اللفظين وقرئ "يا بشرى " بالإدغام وهو لغة بشراي بالسكون على قصد الوقف . "وأسروه" أي الوارد وأصحابه من سائر الرفقة. وقيل أخفوا أمره وقالوا لهم دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم بمصر . وقيل الضمير لإخوة يوسف وذلك أن يهوذا كان يأتيه كل يوم بالطعام فأتاه يومئذ فلم يجده فيها فأخبر اخوته فأتوا الرفقة وقالوا: هذا غلامنا أبق منا فاشتروه، فسكت يوسف مخافة أن يقتلوه."بضاعةً"نصب على الحال أي أخفوه متاعاً للتجارة ، واشتقاقه من البضع فإنه ما بضع من المال للتجارة . " والله عليم بما يعملون " لم يخف عليه أسرارهم أو صنيع إخوة يوسف بأبيهم وأخيهم.
19. And there came a caravan, and they sent their water- drawer. He let down his pail (into the pit). He said: Good luck! Here is a youth. And they hid him as a treasure, and Allah was Aware of what they did.
19 - Then there came a caravan of travellers: they sent their water carrier (for water), and he let down his bucket (into the well) he said: Ah there good news here is a (fine) young man so they concealed him as a treasure but God knoweth well all that they do