[هود : 75] إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ
75 - (إن إبراهيم لحليم) كثير الأناة (أواه منيب) رجاع ، فقال لهم : أتهلكون قرية فيها ثلاثمائة مؤمن ؟ قالوا : لا ، قال : أفتهلكون قرية فيها مائتا مؤمن ؟ قالوا : لا ، قال ، أفتهلكون قرية فيها أربعون مؤمنا ؟ قالوا : لا قال : أفتهلكون قرية فيها أربعة عشر مؤمنا ؟ قالوا : لا ، قال : أفرأيتم إن كان فيها مؤمن واحد ؟ قالوا : لا ، قال : إن فيها لوطا ، قالوا : نحن أعلم بمن فيها الخ
قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : فلما ذهب عن إبراهيم الخوف الذي أوجسه في نفسه من رسلنا ، حين رأى أيديهم لا تصل إلى طعامه ، وأمن أن يكون قصد في نفسه وأهله بسوء ، "وجاءته البشرى" ، بإسحاق ، ظل ، "يجادلنا في قوم لوط" .
وبنحو الذي قلنا قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : "فلما ذهب عن إبراهيم الروع" ، يقول : ذهب عنه الخوف ، "وجاءته البشرى" ، بإسحاق .
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق :"فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى" ، بإسحاق ، ويعقوب ولد من صلب إسحاق ، وأمن مما كان يخاف ، قال : ( الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء ) .
وقد قيل : معنى ذلك : وجاءته البشرى أنهم ليسوا إياه يريدون .
ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : "وجاءته البشرى" ، قال : حين أخبروه أنهم أرسلوا إلى قوم لوط ، وأنهم ليسوا إياه يريدون .
وقال آخرون : بشر بإسحاق .
وأما "الروع" ، فهو الخوف ، يقال منه : راعني كذا يروعني روعا ، إذا خافه . "ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لرجل : وكيف لك بروعة المؤمن" ؟ ومنه قول عنترة :
ما راعني إلا حمولة أهلها وسط الديار تسف حب الخمخم
بمعنى : ما أفزعني .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .
ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ،حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "الروع" ، الفرق .
حدثني المثنى قال ، حدثنا ابو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد .
قال وحدثنا إسحاق قال ، حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : "فلما ذهب عن إبراهيم الروع" ، قال : الفرق .
حدثنا الحسن بن يحيى قال ، أخبرنا عبد الرزاق قال ، أخبرنا معمر ،عن قتادة : "فلما ذهب عن إبراهيم الروع" ، قال : الفرق .
حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : "فلما ذهب عن إبراهيم الروع" ، قال : ذهب عنه الخوف .
وقوله : "يجادلنا في قوم لوط" ، يقول : يخاصمنا ، كما :
حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : "يجادلنا" ، بخاصمنا .
حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
وزعم بعض أهل العربية من أهل البصرة أن معنى قوله : "يجادلنا" ، يكلمنا .
وقال : لأن إبراهيم لا يجادل الله ، إنما يسأله ويطلب إليه .
قال أبو جعفر : وهذا الكلام جهل ، لأن الله تعالى ذكره أخبرنا في كتابه أنه يجادل في قوم لوط ، فقول القائل : إبراهيم لا يجادل ، موهماً بذلك أن قول من قال في تأويل قوله : "يجادلنا" ، يخاصمنا ، أن إبراهيم كان يخاصم ربه ، جهل من الكلام ، وإنما كان جداله الرسل على وجه المحاجة لهم . ومعنى ذلك : وجاءته البشرى يجادل رسلنا ، ولكنه لما عرف المراد من الكلام ، حذف الرسل .
وكان جداله إياهم ،كما :
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا يعقوب القمي قال ، حدثنا جعفر ، عن سعيد : "يجادلنا في قوم لوط" ، قال : لما جاء جبريل ومن معه قالوا لإبراهيم : إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين ! قال لهم إبراهيم : أتهلكون قريةً فيها أربعمئة مؤمن ؟ قالوا : لا ! قال : افتهلكون قريو فيها ثلثمئة مؤمن ؟ قالوا : لا ! قال : أفتهلكون قرية فيها مئتا مؤمن ؟ قالوا : لا ! قال : أفتهلكون قرية فيها أربعون مؤمناً ؟ قالوا : لا ! قال : أفتهلكون قرية فيها أربعة عشر مؤمناً ؟ قالوا :لا ! وكان إبراهيم يعدهم أربعة عشر بامرأة لوط ، فسكت عنهم واطمأنت نفسه .
حدثنا أبو كريب قال ، حدثنا الحماني ، عن الأعمش ، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال الملك لإبراهيم : إن كان فيها خمسة يصلون ، رفع عنهم العذاب .
حدثنا بشر قال حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : "يجادلنا في قوم لوط" ، ذكر لنا أن مجادلته إياهم أنه قال لهم : أرأيتم إن كان فيها خمسون من المؤمنين ، أمعذبوها أنتم ؟ قالوا : لا ! حتى صار ذلك إلى عشرة قال : أرايتم إن كان فيها عشرة ، أمعذبوهم أنتم ؟ قالوا : لا ! وهي ثلاث قرى ، فيها ما شاء الله من الكثرة والعدد .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : "يجادلنا في قوم لوط" ، قال : بلغنا أنه قال لهم يومئذ : أرأيتم إن كان فيهم خمسون من المسلمين ؟ قالوا : إن كان فيهم خمسون لم نعذبهم ! قال : أربعون ؟ قالوا : وأربعون ! قال : ثلاثون ؟ قالوا : وثلاثون ! حتى بلغ عشرة . قالوا : وإن كان فيهم عشرة ! قال : ما قوم لا يكون فيهم عشرة فيهم خير . قال ابن عبد الأعلى ، قال محمد بن ثور :قال معمر: بلغنا أنه كان في قرية لوط أربعة آلاف إنسان ، أو ما شاء الله من ذلك .
حدثني موسى بن هرون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي ، "فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى" ، قال : ما خطبكم أيها المرسلون ؟ قالوا : إنا أرسلنا إلى قوم لوط .
فجادلهم في قوم لوط ، قال : أرأيتم إن كان فيها مئة من المسلمين أتهلكونهم ؟ قالوا : لا ! فلم يزل يحط حتى بلغ عشرة من المسلمين ، فقالوا : لا نعذبهم ، إن كان فيهم عشرة من المسلمين . ثم قالوا : يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه ليس فيها إلا أهل بيت من المؤمنين ، هو لوط وأهل بيته . وهو قول الله تعالى ذكره : "يجادلنا في قوم لوط" ، فقالت الملائكة : "يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود" .
حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : "فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى" ، يعني إبراهيم ، جادل عن قوم لوط ليرد عنهم العذاب . قال : فيزعم أهل التوارة أن مجادلة إبراهيم إياهم حين جادلهم في قوم لوط ليرد عنهم العذاب ، إنما قال للرسل فيما يكلمهم به : أرأيتم إن كان فيهم مئة مؤمن ، أتهلكونهم ؟ قالوا : لا ! قال : أفرأيتم إن كانوا تسعين ؟ قالوا : لا ! قال : أفرأيتم إن كانوا ثمانين ؟ قالوا : لا ! قال : أفرأيتم إن كانوا سبعين ؟ قالوا : لا ! قال : أفرأيتم إن كانوا ستين ؟ قالوا : لا ! قال : أفرأيتم إن كانوا خمسين ؟ قالوا : لا ! قال : أفرأيتم إ نكان رجلاً واحداً مسلماً ؟ قالوا : لا ! قال : فلما لم يذكروا لإبراهيم أن فيها مؤمناً واحداً قال : ( إن فيها لوطا ) ، يدفع به عنهم العذاب ، ( قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين ) . "يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود" .
حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج قال ، قال ابن جريج ، قال إبراهيم : أتهلكونهم إن وجدتم فيهم مئة مؤمن ؟ ثم تسعين ، حتى هبط إلى خمسة . قال : وكان في قرية لوط أربعة آلاف ألف .
حدثنا محمد بن عوف قال ،حدثنا أبو المغيرة قال ، حدثنا صفوان قال ، حدثنا المثنى ، ومسلم أبو الحبيل الأشجعي قالا : "لما ذهب عن إبراهيم الروع" ، إلى آخر الآية ، قال إبراهيم : أتعذب عالماً من عالمك كثيراً ، فيهم مئة رجل ؟ قال : لا وعزتي ! ولا خمسين . قال : فأربعين ؟ فثلاثين ؟ حتى انتهى إلى خمسة ، قال : لا ! وعزتي ، لا أعذبهم ، ولو كان فيهم خمسة يعبدونني ! قال الله عز وجل :( فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين ) ، أي : لوطاً وابنتيه . قال : فحل بهم العذاب ، قال الله عز وجل : ( وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم ) . وقال :"فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط" .
والعرب لا تكاد تتلقى لما ، إذا وليها فعل ماض إلا بماض ، يقولون : لما قام قمت ، ولا يكادون يقولون : لما قام أقوم . وقد يجوز فيما كان من الفعل له تطاول ، مثل الجدال و الخصومة ، و القتال ، فيقولون في ذلك : لما لقيته أقاتله ، بمعنى : جعلت أقاتله .
وقوله : "إن إبراهيم لحليم أواه منيب" ، يقول تعالى ذكره : إن إبراهيم لبطيء الغضب ، متذلل لربه ، خاشع له ، منقاد لأمره ، "منيب" ، رجاع إلى طاعته ، كما :
حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا إسرائيل ، عن ابي يحيى ، عن مجاهد : "أواه منيب" ، قال : القانت الرجاع .
وقد بينا معنى الأواه ، فيما مضى ، باختلاف المختلفين ، والشواهد على الصحيح منه عندنا من القول ، بما أغنى عن إعادته .
" إن إبراهيم لحليم أواه منيب " تقدم في ( براءة) معنى " لأواه حليم " ( التوبة: 114) والمنيب الراجع، يقال: أناب إذا رجع. وإبراهيم صلى الله عليه وسلم كان راجعاً إلى الله تعالى في أموره كلها. وقيل: الأواه المتأوه أسفاً على ما قد فات قوم لوط من الإيمان.
يخبر تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه لما ذهب عنه الروع وهو ما أوجس من الملائكة خيفة حين لم يأكلوا وبشروه بعد ذلك بالولد وأخبروه بهلاك قوم لوط أخذ يقول كما قال سعيد بن جبير في الاية قال: لما جاءه جبريل ومن معه قالوا له: "إنا مهلكوا أهل هذه القرية" قال لهم: أتهلكون قرية فيها ثلثمائة مؤمن ؟ قالوا: لا, قال: أفتهلكون قرية فيها مائتا مؤمن ؟ قالوا: لا, قال أفتهلكون قرية فيها أربعون مؤمناً ؟ قالوا: لا, قال ثلاثون ؟ قالوا: لا, حتى بلغ خمسة قالوا: لا, قال: أرأيتكم إن كان فيها رجل مسلم واحد أتهلكونها ؟ قالوا: لا, فقال إبراهيم عليه السلام عند ذلك: "إن فيها لوطاً قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته" الاية. فسكت عنهم واطمأنت نفسه, وقال قتادة وغيره قريباً من هذا زاد ابن إسحاق أفرأيتم إن كان فيها مؤمن واحد ؟ قالوا: لا, قال: فإن كان فيها لوط يدفع به عنهم العذاب قالوا: "نحن أعلم بمن فيها" الاية, وقوله: "إن إبراهيم لحليم أواه منيب" مدح لإبراهيم بهذه الصفات الجميلة, وقد تقدم تفسيرها, وقوله تعالى: "يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك" الاية, أي أنه قد نفذ فيهم القضاء وحقت عليهم الكلمة بالهلاك وحلول البأس الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
ثم أثنوا على إبراهيم، أو أثنى الله عليه فقال: 75- "إن إبراهيم لحليم" أي ليس بعجول في الأمور، ولا بموقع لها على غير ما ينبغي. والأواه: كثير التأوه، والمنيب: الراجع إلى الله. وقد تقم في براءة الكلام على الأواه.
75- "إن إبراهيم لحليم أواه منيب"، قال ابن جريج: وكان في قرى قوم لوط أربعة آلاف ألف، فقالت الرسل عند ذلك لإبراهيم.
75."إن إبراهيم لحليم"غير عجول على الانتقام من المسيء إليه."أواه"كثير التأوه من الذنوب والتأسف على الناس."منيب"راجع إلى الله ، والمقصود من ذلك بيان الحامل له على المجادلة وهو رقة قلبه وفرط ترحمه.
75. Lo! Abraham was mild, imploring, penitent.
75 - For Abraham was, without doubt, forbearing (of faults), compassionate, and given to look to God.