[يونس : 59] قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ
59 - (قل أرأيتم) أخبروني (ما أنزل الله) خلق (لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً) كالبحيرة والسائبة والميتة (قل آلله أذن لكم) في ذلك بالتحليل والتحريم لا (أم) بل (على الله تفترون) تكذبون بنسبة ذلك إليه
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: " قل "، يا محمد، لهؤلاء المشركين، " أرأيتم " أيها الناس، " ما أنزل الله لكم من رزق "، يقول: ما خلق الله لكم من الرزق فخولكموه، وذلك ما تتغذون به من الأطعمة، " فجعلتم منه حراما وحلالا "، يقول: فحللتم بعض ذلك لأنفسكم، وحرمتم بعضه عليها، وذلك كتحريمهم ما كانوا يحرمونه من حروثهم التي كانوا يجعلونها لأوثانهم، كما وصفهم الله به فقال: " وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا " [الأنعام: 136].
ومن الأنعام ما كانوا يحرمونه بالتبحير والتسييب ونحو ذلك، مما قدمناه فيما مضى من كتابنا هذا.
يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: " قل "، يا محمد، " آلله أذن لكم "، بأن تحرموا ما حرمتم منه، " أم على الله تفترون "، أي: تقولون الباطل وتكذبون؟.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: إن أهل الجاهلية كانوا يحرمون أشياء أحلها الله من الثياب وغيرها، وهو قول الله: " قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا "، وهو هذا. فأنزل الله تعالى: " قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده " الآية، [الأعراف: 32].
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: " قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم " إلى قوله: " أم على الله تفترون "، قال: هم أهل الشرك.
حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قوله: " فجعلتم منه حراما وحلالا "، قال: الحرث والأنعام. قال ابن جريج ، قال مجاهد : البحائر والسيب.
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد : " فجعلتم منه حراما وحلالا "، قال: في البحيرة والسائبة.
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: " قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا "، الآية، يقول: كل رزق لم أحرم حرمتموه على أنفسكم من نسائكم وأموالكم وأولادكم، آلله أذن لكم فيما حرمتم من ذلك، أم على الله تفترون.
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:" قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا "، فقرأ حتى بلغ: " أم على الله تفترون "، وقرأ: " وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا " [الأنعام: 139]، وقرأ: " وقالوا هذه أنعام وحرث حجر " حتى بلغ: " لا يذكرون اسم الله عليها " [الأنعام: 138]. فقال: هذا قوله، جعل لهم رزقاً، فجعلوا منه حراماً وحلالاً، وحرموا بعضه وأحلوا بعضه. وقرأ: " ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين "، أي هذين حرم على هؤلاء الذين يقولون وأحل لهؤلاء، " نبئوني بعلم إن كنتم صادقين * أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا "، إلى آخر الآيات، [الأنعام: 142 - 144].
حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: " قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا "، هو الذي قال الله: " وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا " إلى قوله: " ساء ما يحكمون " [الأنعام: 136].
قوله تعالى: "قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا".
فيه مسألتان:
الأولى- قوله تعالى: "قل أرأيتم" يخاطب كفار مكة. "ما أنزل الله لكم من رزق" ما في موضع نصب بأرأيتم. وقال الزجاج: في موضع نصب بـأنزل. وأنزل بمعنى خلق، كما قال: "وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج" [الزمر: 6]. "وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد" [الحديد: 25]. فيجوز أن يعبر عن الخلق بالإنزال، لأن الذي في الأرض من الرزق إنما هو بما ينزل من السماء من المطر. "فجعلتم منه حراما وحلالا" قال مجاهد: هو ما حكموا به من تحريم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام. وقال الضحاك: هو قول الله تعالى: "وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا" [الأنعام: 136]. "قل آلله أذن لكم" أي في التحليل والتحريم. "أم على الله" أم بمعنى بل. "تفترون" هو قولهم إن الله أمرنا بها.
الثانية- استدل بهذه الآية من نفي القياس، وهذا بعيد، فإن القياس دليل الله تعالى، فيكون التحليل والتحريم من الله تعالى عند وجود دلالة نصبها الله تعالى على الحكم، فإن خالف في كون القياس دليلاً لله تعالى فهو خروج عن هذا الغرض ورجوع إلى غيره.
قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم: نزلت إنكاراً على المشركين فيما كانوا يحللون ويحرمون من البحائر والسوائب والوصايل, كقوله تعالى: "وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً" الايات, وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر, حدثنا شعبة عن أبي إسحاق, سمعت أبا الأحوص, وهو عوف بن مالك بن نضلة, يحدث عن أبيه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا رث الهيئة فقال: "هل لك مال ؟ قلت نعم. قال من أي المال ؟ قال قلت من كل المال من الإبل والرقيق والخيل والغنم, فقال: إذا آتاك الله مالاً فلير عليك ـ وقال! هل تنتج إبلك صحاحاً آذانها فتعمد إلى موسى فتقطع آذانها فتقول هذه بحر, وتشق جلودها وتقول هذه صرم وتحرمها عليك وعلى أهلك قال نعم قال فإن ما آتاك الله لك حل, ساعد الله أشد من ساعدك وموسى الله أحد من موساك" وذكر تمام الحديث.
ثم رواه عن سفيان بن عيينة عن أبي الزهراء عمرو بن عمرو عن عمه أبي الأحوص, وعن بهز بن أسد عن حماد بن سلمة عن عبد الملك بن عمير عن أبي الأحوص به, وهذا حديث جيد قوي الإسناد, وقد أنكر الله تعالى على من حرم ما أحل الله أو أحل ما حرم بمجرد الاراء والأهواء التي لا مستند لها ولا دليل عليها, ثم توعدهم على ذلك يوم القيامة فقال: "وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة" أي ما ظنهم أن يصنع بهم يوم مرجعهم إلينا يوم القيامة, وقوله: "إن الله لذو فضل على الناس" قال ابن جرير: في تركه معاجلتهم بالعقوبة في الدنيا (قلت) ويحتمل أن يكون المراد لذو فضل على الناس فيما أباح لهم مما خلقه من المنافع في الدنيا ولم يحرم عليهم إلا ما هو ضار لهم في دنياهم أو دينهم "ولكن أكثرهم لا يشكرون" بل يحرمون ما أنعم الله به عليهم, ويضيقون على أنفسهم فيجعلون بعضاً حلالاً وبعضاً حراماً. وهذا قد وقع فيه المشركون فيما شرعوه لأنفسهم, وأهل الكتاب فيما ابتدعوه في دينهم.
وقال ابن أبي حاتم في تفسير هذه الاية حدثنا أبي حدثنا أحمد بن أبي الحواري حدثنا رباح حدثنا عبد الله بن سليمان حدثنا موسى بن الصباح في قوله عز وجل: "إن الله لذو فضل على الناس" قال إذا كان يوم القيامة يؤتى بأهل ولاية الله عز وجل فيقومون بين يدي الله عز وجل ثلاثة أصناف قال فيؤتى برجل من الصنف الأول فيقول: عبدي لماذا عملت ؟ فيقول يا رب خلقت الجنة وأشجارها وثمارها وأنهارها وحورها ونعيمها وما أعددت لأهل طاعتك فيها فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري شوقاً إليها ـ قال! فيقول الله تعالى: عبدي إنما عملت للجنة هذه الجنة فادخلها ومن فضلي عليك قد أعتقتك من النار ومن فضلي عليك أن أدخلك جنتي فيدخل هو ومن معه الجنة ـ قال ـ ثم يؤتى برجل من الصنف الثاني فيقول عبدي لماذا عملت فيقول يا رب خلقت ناراً وخلقت أغلالها وسعيرها وسمومها ويحمومها وما أعددت لأعدائك وأهل معصيتك فيها فأسهرت ليلي وأظمأت نهاري خوفاً منها فيقول عبدي إنما عملت ذلك خوفاً من ناري فإني قد أعتقتك من النار ومن فضلي عليك أن أدخلك جنتي فيدخل هو ومن معه الجنة. ثم يؤتى برجل من الصنف الثالث فيقول عبدي لماذا عملت ؟ فيقول رب حباً لك وشوقاً إليك وعزتك لقد أسهرت ليلي وأظمأت نهاري شوقاً إليك وحباً لك. فيقول تبارك وتعالى: عبدي إنما عملت حباً لي وشوقاً إلي فيتجلى له الرب جل جلاله ويقول ها أنا ذا فانظر إلي ثم يقول: من فضلي عليك أن أعتقك من النار وأبيحك جنتي وأزيرك ملائكتي وأسلم عليك بنفسي: فيدخل هو ومن معه الجنة.
أشار سبحانه بقوله: 59- "قل أرأيتم ما أنزل الله" إلخ إلى طريق أخرى غير ما تقدم في إثبات النبوة، وتقرير ذلك ما حاصله أنكم تحكمون بتحليل البعض وتحريم البعض، فإن كان بمجرد التشهي والهوى فهو مهجور باتفاق العقلاء مسلمهم وكافرهم، وإن كان لاعتقادكم أنه حكم الله فيكم وفيما رزقكم فلا تعرفون ذلك إلا بطريق موصلة إلى الله، ولا طريق يتبين بها الحلال من الحرام إلا من جهة الرسل الذين أرسلهم الله إلى عباده، ومعنى أرأيتم: أخبروني و "ما" في محل نصب بأرأيتم المتضمن لمعنى أخبروني. وقيل: إن ما في محل الرفع بالابتداء وخبرها "آلله أذن لكم" و قل في قوله: "قل آلله أذن لكم" تكرير للتأكيد والرابط محذوف، ومجموع المبتدأ والخبر في محل نصب بأرأيتم، والمعنى: أخبروني الذي أنزل الله إليكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً، آلله أذن لكم في تحليله وتحريمه "أم على الله تفترون" وعلى الوجهين، فمن في منه حراماً للتبعيض، والتقدير: فجعلتم بعضه حراماً وجعلتم بعضه حلالاً وذلك كما كانوا يفعلونه في الأنعام حسبما سبق حكاية ذلك عنهم في الكتاب العزيز، ومعنى إنزال الرزق: كون المطر ينزل من جهة العلو، وكذلك يقضي الأمر في أرزاق العباد في السماء على ما قد ثبت في اللوح المحفوظ من ذكره سبحانه وتعالى لكل شيء فيه. وروي عن الزجاج أن ما في موضع نصب بأنزل، وأنزل بمعنى خلق كما قال: "وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج" "وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد" وعلى هذا القول والقول الأول يكون قوله: "قل آلله أذن لكم" مستأنفاً، قيل: ويجوز أن تكون الهمزة في "آلله أذن لكم" للإنكار، وأم منقطعة بمعنى: بل أتفترون على الله، وإظهار الاسم الشريف وتقديمه على الفعل للدلالة على كمال الافتراء. وفي هذه الآية الشريفة ما يصك مسامع المتصدرين للإفتاء لعباد الله في شريعته، بالتحليل والتحريم والجواز وعدمه، مع كونهم من المقلدين الذين لا يعقلون حجج الله، ولا يفهمونها ولا يدرون ما هي، ومبلغهم من العلم الحكاية لقول قائل من هذه الأمة قد قلدوه في دينهم، وجعلوه شارعاً مستقلاً، ما عمل به من الكتاب والسنة فهو المعمول به عندهم، وما لم يبلغه أو بلغه ولم يفهمه حق فهمه، أو فهمه وأخطأ الصواب في اجتهاده وترجيحه، فهو في حكم المنسوخ عندهم المرفوع حكمه عن العباد، مع كون من قلدوه متعبداً بهذه الشريعة كما هم متعبدون بها ومحكوماً عليه بأحكامها كما هو محكوم عليهم بها، وقد اجتهد رأيه وأدى ما عليه، وفاز بأجرين مع الإصابة وأجر مع الخطأ، إنما الشأن في جعلهم لرأيه الذي أخطأ فيه شريعة مستقلة، ودليلاً معمولاً به، وقد أخطأوا في هذا خطأ بيناً، وغلطوا غلطاً فاحشاً، فإن الترخيص للمجتهد في اجتهاد رأيه يخصه وحده، ولا قائل من أهل الإسلام المعتد بأقوالهم أنه يجوز لغيره أن يعمل به تقليداً له واقتداء به، وما جاء به المقلدة في تقوم هذا الباطل، فهو من الجهل العاطل، اللهم كما رزقتنا من العلم ما نميز به بين الحق والباطل، فارزقنا من الإنصاف ما نظفر عنده بما هو الحق عندك يا واهب الخير.
59-"قل" يا محمد لكفار مكة، "أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق"، عبر عن الخلق بالإنزال، لأن ما في الأرض من خير، فمما أنزل من السماء من رزق، من زرع وضرع، "فجعلتم منه حراما وحلالا"، هو ما حرموا من الحرث ومن الأنعام كالبحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام. قال الضحاك: هو قوله تعالى: "وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً" (الإنعام-136). "قل آلله أذن لكم"، في هذا التحريم والتحليل، "أم" بل، "على الله تفترون"، وهو قولهم: "والله أمرنا بها".
59."قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق"جعل الرزق منزلاً لأنه مقدر في السماء محصل بأسباب منها ، وما في موضع النصب بـ"أنزل"أو بـ" أرأيتم"فإنه بمعنى أخبروني ،ولكم دل على أن المراد منه ما حل ولذلك وبخ على التبعيض فقال:"فجعلتم منه حراماً وحلالاً"مثل:"هذه أنعام وحرث حجر"[وعند قوله تعالى]"ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا"" قل آلله أذن لكم "في التحريم والتحليل فتقولون ذلك بحكمه ."أم على الله تفترون" في بنسبة ذلك إليه ويجوز أن تكون المفصلة متصلة بـ"أرأيتم "وقل مكرر للتأكيد وأن يكون الاستفهام للإنكار،و"أم"منقطعة ومعنى الهمزة فيها تقرير لافترائهم على الله .
59. Say: Have ye considered what provision Allah hath sent down for you, how ye have made of it lawful and unlawful? Say: Hath Allah permitted you, or do ye invent a lie concerning Allah?
59 - Say: see ye what things God hath sent down to you for sustenance? yet ye hold forbidden some things thereof and (some things) lawful. say: hath God indeed permitted you, or do ye invent (things) to attribute to God?