[الفاتحة : 2] الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
جملة خبرية قصد بها الثناء على الله بمضمونها على أنه تعالى مالك لجميع الحمد من الخلق أو مستحق لأن يحمدوه ، والله علم على المعبود بحق (رب العالمين) أي مالك جميع الخلق من الإنس والجن والملائكة والدواب وغيرهم وكل منها يطلق عليه عالم ، يقال عالم الإنس وعالم الجن إلى غير ذلك ، وغلب في جمعه بالياء والنون أولي العلم على غيرهم وهو من العلامة لأنه علامة على موجده
قال أبو جعفر: ومعنى "الحمد لله ": الشكر خالصًا لله جل ثناؤه دون سائر ما يعبد من دونه، ودون كل ما برأ من خلقه، بما أنعم على عباده من النعم التي لا يحصيها العدد، ولا يحيط بعددها غيره أحد، في تصحيح الآلات لطاعته، وتمكين جوارح أجسام المكففين لأداء فرائضه، مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق، وغذاهم به من نعيم العيش، من غير استحقاق منهم ذلك عليه، ومع ما نبههم عليه ودعاهم إليه، من الأسباب المؤدية إلى دوام الخلود في دار المقام في النعيم المقيم. فلربنا الحمد على ذلك كله أولاً وآخرًا.
وبما ذكرنا من تأويل قول ربنا جل ذكره وتقدست أسماؤه "الحمد لله" ، جاء الخبر عن ابن عباس وغيره:
حدثنا محمد بن العلاء، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة:قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: قال جبريل لمحمد صلى الله عليهما: قل يا محمد "الحمد لله " قال ابن عباس: "الحمد لله" : هو الشكر لله، والاستخذاء لله، والإقرار بنعمته وهدايته وابتدائه، وغير ذلك.
حدثني سعيد بن عمر السكوني، قال: حدثنا بقية بن الوليد، قال: حدثني عيسى بن إبراهيم، عن موسى بن أبي حبيب، عن الحكم بن عمير وكانت له صحبة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا قلت "الحمد لله رب العالمين "، فقد شكرت الله، فزادك ".
قال: وقد قيل: إن قول القائل "الحمد لله "، ثناء على الله بأسمائه وصفاته الحسنى، وقوله: الشكر لله ثناء عليه بنعمه وأياديه.
وقد روي عن كعب الأحبار أنه قال: "الحمد لله "، ثناء على الله. ولم يبين في الرواية عنه، من أي معنيي الثناء اللذين ذكرنا ذلك.
حدثنا يونس بن عبد الأعلى الصدفي، قال: أنبأنا ابن وهب، قال: حدثني عمربن محمد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه قال: أخبرني السلولي عن كعب، قال: من قال "الحمد لله "، فذلك ثناء على الله.
حدثني علي بن الحسن الخراز، قال: حدثنا مسلم بن عبد الرحمن الجرمي، قال:حدثنا محمد بن مصعب القرقساني، عن مبارك بن فضالة، عن الحسن، عن الأسود بن سريع: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس شيء أحب إليه الحمد، من الله تعالى، ولذلك أثنى على نفسه فقال: "الحمد لله "".
قال أبو جعفر: ولا تمانع بين أهل المعرفة بلغات العرب من الحكم لقول القائل: الحمد لله شكرًا بالصحة. فقد تبين إذ كان ذلك عند جميعهم صحيحًا أن الحمد لله قد ينطق به في موضع الشكر، وأن الشكر قد يوضع موضع الحمد. لأن ذلك لو لم يكن كذلك، لما جاز أن يقال الحمد لله شكرًا، فيخرج من قول القائل "الحمد لله " مصدر: أشكر، لأن الشكر لو لم يكن بمعنى الحمد، كان خطأ أن يصدر من الحمد غير معناه وغير لفظه.
فإن قال لنا قائل: وما وجه إدخال الألف واللام في الحمد؟ وهلا قيل: حمدًا لله رب العالمين؟
قيل: إن لدخول الألف واللام في الحمد، معنى لا يؤديه قول القائل حمدًا بإسقاط الألف واللام. وذلك أن دخولهما في الحمد منبىء عن أن معناه: جميع المحامد والشكر الكامل لله. ولو أسقطتا منه لما دل إلا على أن حمد قائل ذلك لله، دون المحامد كلها. إذ كان معنى قول القائل: حمدًا لله أو حمد الله : أحمد الله حمدًا، وليس التأويل في قول القائل: "الحمد لله رب العالمين "، تالًيا سورة أم القرآن: أحمد الله، بل التأويل في ذلك ما وصفنا قبل، من أن جميع المحامد لله بألوهيته وإنعامه على خلقه بما أنعم عليهم به من النعم، التي لا كفاء لها في الدين والدنيا، والعاجل والآجل.
ولذلك من المعنى، تتابعت قراءة القراء وعلماء الأمة على رفع الحمد من "الحمد لله رب العالمين " دون نصبها، الذي يؤدي إلى الدلالة على أن معنى تاليه كذلك: أحمد لله حمدًا. ولو قرأ قارىء ذلك بالنصب، لكان عندي محيلاً معناه، ومستحقاً العقوبة على قراءته إياه كذلك، إذا تعمد قراءته كذلك، وهو عالم بخطئه وفساد تأويله.
فإن قال لنا قائل: وما معنى قوله "الحمد لله "؟ أحمد الله نفسه جل ثناؤه فأثنى عليها، ثم علمناه لنقول ذلك كما قال ووصف به نفسه؟ فإن كان ذلك كذلك، فما وجه قوله تعالى ذكره إذا "إياك نعبد وإياك نستعين "، وهو عز ذكره معبود لا عابد؟ أم ذلك من قيل جبريل أو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقد بطل أن يكون ذلك لله كلامًا.
قيل: بل ذلك كله كلام الله جل ثناؤه، ولكنه جل ذكره حمد نفسه وأثنى عليها بما هو له أهل، ثم علم ذلك عباده، وفرض عليهم تلاوته، اختباراً منه لهم وابتلاء، فقال لهم قولوا: "الحمد لله رب العالمين "، و قولوا: "إياك نعبد وإياك نستعين". فقوله "إياك نعبد " مما علمهم جل ذكره أن يقولوه ويدينوا له بمعناه، وذلك موصول بقوله: "الحمد لله رب العالمين "، وكأنه قال: قولوا هذا وهذا.
فإن قال: وأين قوله: قولوا، فيكون تأويل ذلك ما ادعيت؟
قيل: قد دللنا فيما مضى أن العرب من شأنها إذا عرفت مكان الكلمة، ولم تشكك أن سامعها يعرف، بما أظهرت من منطقها، ما حذفت حذف ما كفى منه الظاهر من منطقها، ولا سيما إن كانت تلك الكلمة التي حذفت، قولاً، أو تأويل قول، كما قال الشاعر:
وأعلم أنني سأكون رمسًا إذا سار النواعج لا يسير
فقال السائلون لمن حفرتم؟ فقال المخبرون لهم: وزير
قال أبو جعفر: يريد بذلك، فقال المخبرون لهم: الميت وزير، فأسقط الميت، إذ كان قد أتى من الكلام بما دل على ذلك. وكذلك قول الآخر:
ورأيت زوجك في الوغى متقلدًا سيفاً ورمحاً‌
وقد علم أن الرمح لا يتقلد به، وأنه إنما أراد: وحاملاً رمحًا، ولكن لما كان معلومًا معناه،اكتفى بما قد ظهر من كلامه، عن إظهار ما حذف منه. وقد يقولون للمسافر إذا ودعوه: مصاحباً معافى، يحذفون سر، واخرج ، إذ كان معلومًا معناه، وإن أسقط ذكره.
فكذلك ما حذف من قول الله تعالى ذكره: "الحمد لله رب العالمين "، لما علم بقوله جل وعز ‌"إياك نعبد" ما أراد بقوله: "الحمد لله رب العالمين" ، من معنى أمره عباده، أغنت دلالة ما ظهرعليه من القول عن إبداء ما حذف.
وقد روينا الخبر الذي قدمنا ذكره مبتدأ في تأويل قول الله: "الحمد لله رب العالمين " ، عن ابن عباس، وأنه كان يقول: إن جبريل قال لمحمد: قل يا محمد: "الحمد لله رب العالمين "، وبينا أن جبريل إنما علم محمدًا صلى الله عليه وسلم ما امر بتعليمه إياه. وهذا الخبرينبىء عن صحة ما قلنا في تأويل ذلك.
القول في تأويل قول الله: " رب "
قال أبو جعفر: قد مضى البيان عن تأويل اسم الله الذي هو "الله "، في "بسم الله "، فلا حاجة بنا إلى تكراره في هذا الموضع.
وأما تأويل قوله "رب "، فإن الرب في كلام العرب منصرف على معان. فالسيد المطاع فيهم يدعى ربا، ومن ذلك قول لبيد بن ربيعة:
وأهلكن يومًا رب كندة وابنه ورب معد، بين خبت وعرعر‌
يعني برب كندة: سيد كندة. ومنه قول نابغة بني ذبيان:
تخب إلى النعمان حتى تناله فدى لك من رب طريفي وتالدي
والرجل المصلح للشيء يدعى ربا، ومنه قول الفرزدق بن غالب:
كانوا كسالئة حمقاء إذ حقنت سلاءها في أديم غير مربوب
يعني بذلك: في أديم غير مصلح. ومن ذلك قيل: إن فلاناً يرب صنيعته عند فلان إذا كان يحاول إصلاحها وإدامتها، ومن ذلك قول علقمة بن عبدة:
فكنت امرأ أفضت إليك ربابتي وقبلك ربتني، فضعت، ربوب
يعني بقوله: أفضت إليك أي وصلت إليك ربابتي، فصرت أنت الذي ترب أمري فتصلحه، لما خرجت من ربابة غيرك من الملوك كانوا قبلك علي، فضيعوا أمري وتركوا تفقده وهم الربوب: واحدهم رب. والمالك للشيء يدعى ربه. وقد يتصرف أيضاً معنى الرب في وجوه غير ذلك، غير أنها تعود إلى بعض هذه الوجوه الثلاثة.
فربنا جل ثناؤه: السيد الذي لا شبه له، ولا مثل في مثل سودده، والمصلح أمر خلقه بما أسبغ عليهم من نعمه، والمالك الذي له الخلق والأمر.
وبنحو الذي قلنا في تأويل قوله جل ثناؤه "رب العالمين "، جاءت الرواية عن ابن عباس:
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشربن عمارة، قال: حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: قال جبريل لمحمد: يا محمد قل: "الحمد لله رب العالمين "، قال ابن عباس: يقول: قل الحمد لله الذي له الخلق كله السموات كلهن ومن فيهن، والأرضون كلهن ومن فيهن وما بينهن، مما يعلم ومما لا يعلم، يقول: اعلم يا محمد أن ربك هذا لا يشبهه شيء.
القول في تأويل قوله: "العالمين".
قال أبو جعفر: والعالمون جمع عالم، والعالم: جمع لا واحد له من لفظه، كالأنام والرهط والجيش، ونحو ذلك من الأسماء التي هي موضوعات على جماع لا واحد له من لفظه.
والعالم اسم لأصناف الأمم، وكل صنف منها عالم، وأهل كل قرن من كل صنف منها عالم ذلك القرن وذلك الزمان. فالإنس عالم، وكل أهل زمان منهم عالم ذلك الزمان. والجن عالم، وكذلك سائر أجناس الخلق، كل جنس منها عالم زمانه. ولذلك جمع فقيل: عالمون، وواحده جمع، لكون عالم كل زمان من ذلك عالم ذلك الزمان. ومن ذلك قول العجاج:
فخندف هامة هذا العالم
فجعلهم عالم زمانه. وهذا القول الذي قلناه، قول ابن عباس وسعيد بن جبير، وهو معنى قول عامة المفسرين.
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا بشر بن عمارة، قال:حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن ابن عباس: " الحمد لله رب العالمين"، الحمد لله الذي له الخلق كله: السموات والأرضون ومن فيهن، وما بينهن، مما يعلم ولا يعلم.
حدثني محمد بن سنان القزاز، قال: حدثنا أبو عاصم، عن شبيب، عن عكرمة، عن ابن عباس: "رب العالمين ": الجن والإنس.
حدثني علي بن الحسن، قال: حدثنا مسلم بن عبد الرحمن: قال: حدثنا محمد بن مصعب، عن قيس بن الربيع، عن عطاء بن السائب، عن سعيدبن جبير، عن ابن عباس، في قول
الله جل وعز "رب العالمين "، قال: رب الجن والإنس.
حدثنا أحمد بن إسحق بن عيسى الأهوازي، قال: حدثنا -أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا قيس، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير: قوله: "رب العالمين "، قال: الجن والإنس.
حدثني أحمد بن عبد الرحيم البرقي، قال: حدثني ابن أبي مريم ، عن ابن لهيعة، عن عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير ، قوله: "رب العالمين" قال: ابن آدم والجن والإنس، كل أمة
منهم عالم على حدته.
حدثني محمد بن حميد، قال حدثنا مهران، عن سفيان، عن مجاهد: "الحمد لله رب العالمين "، قال: الإنس والجن.
حدثنا أحمد بن إسحق الأهوازي، قال حدثنا أبو أحمد الزبيري ، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد بمثله.
حدثنا بشر بن معاذ العقدي، قال: حدثنا يزيد بن زريغ، عن سعيد، عن قتادة: "رب العالمين "، قال: كل صنف عالم.
حدثني أحمد بن حازم الغفاري، قال حدثناعبيد الله بن موسى، عن أبي جعفر، عن ربيع بن أنس، عن أبي العالية، في قوله: "رب العالمين"، قال: الإنس عالم، والجن عالم، وما سوى ذلك ثمانية عشر ألف عالم، أو أربعة عشر ألف عالم هو يشك من الملائكة على الأرض. وللأرض أربع زوايا، في كل زاوية ثلاثة آلاف عالم، وخمسمائة عالم، خلقهم لعبادته.
حدثنا القاسم بن الحسن، قال: حدثنا الحسين بن داود، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريح في قوله :"رب العالمين" قال: الإنس والجن.
الأولى : قوله سبحانه وتعالى : "الحمد لله" روى ابو محمد الغني بن سعيد الحافظ من حديث ابي هريرة وابي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إذا قال العبد الحمد لله قال صدق عبدي الحمد لي" . وروى مسلم عن انس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله وسلم :"إن الله ليرضى عن العبد ان يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها" . وقال الحسن : ما من نعمة إلا والحمد الله أفضل منها . وروى ابن ماجة عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"ما أنعم الله على عبد نعمة فقال : الحمد لله إلا كان الذي أعطاه أفضل مما اخذ" . وفي نواد الأصول عن انس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"لو أن الدنيا كلها بحذافيرها بيد رجل من أمتي ثم قال الحمد لله لكانت الحمد لله أفضل من ذلك" . قال ابو عبد الله معناه عندنا أنه قد أعطي الدنيا ، ثم أعطي على اثرها هذه الكلمة حتى نطق بها ، فكانت هذه الكلمة أفضل من الدنيا كلها ، لأن الدنيا فانية والكلمة باقية ، هي من الباقيات الصالحات ، قال الله تعالى "والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا" . وقيل في بعض الروايات : لكان ما أعطى أكثر مما أخذ . فصير الكلمة إعطاءً من العبد ، والدنيا من الله ، فهذا في التدبير . كذاك يجري في الكلام ان هذه الكلمة من العبد ، والدنيا من الله ، وكلاهما من الله في الأصل ، الدنيا منه والكلمة منه ، أعطاه الدنيا فأغناه ، وأعطاه الكلمة فشرفه بها في الآخرة . وروى ابن ماجة " عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم : أن عبداً من عباد الله قال يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك فعضلت بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها فصعدا إلى السماء وقالا يا ربنا إن عبدك قال يا رب إنه قد قال يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك فقال الله لهما : اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها" .
قال أهل اللغة :أعضل الأمر اشتد واستغلق ، والمعضلات ( بتشديد الضاد ) الشدائد . وعضلت المرأة والشاة : إذا نشب ولدها فلم يسهل مخرجه ، بتشديد الضاد أيضاً ، فعلى هذا يكون أعضلت الملكين أو عضلت الملكين بغير تاء . والله أعلم . وروى مسلم عن ابي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض" وذكر الحديث .
الثانية : اختلف العلماء أيما أفضل ، قول العبد : الحمد لله رب العالمين ، أو قول لا إله إلا الله ؟ فقالت طائفة : قوله الحمد لله رب العالمين أفضل ، لأن في ضمنه التوحيد الذي هو لا إله إلا الله ، ففي قوله توحيد وحمد ، وفي قوله لا إله إلا الله توحيد فقط . وقال طائفة :لا إله إلا الله أفضل ، لأنها تدفع الكفر والإشراك ، وعليها يقاتل الخلق ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله" . واختار هذا القول ابن عطية قال : والحاكم بذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم :
"أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له" .
الثالثة أجمع المسلمون على أن الله محمود على سائر نعمه ، وأن مما أنعم الله به الإيمان ، فدل على أن الإيمان فعله وخلقه ، والدليل على ذلك قوله "رب العالمين" . والعالمون جملة المخلوقات ،ومن جملتها الإيمان ، لا كما قال القدرية إنه خلق لهم ، على ما يأتي بيانه .
الرابعة : الحمد في كلام العرب معناه الثناء الكامل ، والأف واللام لاستغراق الجنس من المحامد ، فهو سبحانه يستحق الحمد بأجمعه إذ له الأسماء الحسنى والصفات العلا ، وقد جمع لفظ الحمد جمع القلة في قول الشاعر :
وأبلج محمود الثناء خصصته بأفضل أقوالي وأفضل أحمدي
فالحمد نقيض الذم ، تقول : حمدت الرجل أحمده حمداً فهو حميد ومحمود ، والتحميد أبلغ من الحمد . والحمد أعم من الشكر ، والمحمد : الذي كثرت خصاله المحمودة . قال الشاعر :
الى الماجد القرم الجواد المحمد
وبذلك سمي رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال الشاعر :
فشق له من اسمه ليجله فذو العرض محمود وهذا محمد
والمحمدة : خلاف المذمة . وأحمد الرجل : صار أمره الى الحمد . وأحمدته وجدته محمودا ، تقول : أتيت موضع كذا فأحمدته ، أي صادفته محمدوا موافقاً ، وذلك إذا رضيت سكناه أو مرعاه . ورجل حمدة ـ مثل همزة ـ يكثر حمد الأشياء ويقول فيها أكثر مما فيها . وحمدة النار ـ بالتحريك ـ : صوت التهابها .
الخامسة : ذهب أبو جعفر الطبري وابو العباس المبرد الى ان الحمد والشكر بمعنى واحد سواء ، وليس بمرضي . وحكاه ابو عبد الرحمن السلمي في كتاب الحقائق له عن جعفر الصادق وابن عطاء . قال ابن عطاء معناه الشكر لله ، إذ ان منه الامتنان على تعليمنا إياه حتى حمدناه . واستدل الطبري على أنهما بمعنى بصحة قولك : الحمد لله شكراً . قال ابن عطية : وهو في الحقيقة دليل على خلاف ما ذهب اليه ، لأن قولك شكراً ، إنما خصصت به الحمد ، لأنه على نعمة من النعم . وقال بعض العلماء : إن الشكر أعم من الحمد ، لأنه باللسان وبالجوارح والقلب ، والحمد إنما يكون باللسان خاصة . وقيل الحمد أعم ، لأن فيه معنى الشكر ومعنى المدح ، وهو أعم من الشكر ، لأن الحمد يوضع موضع الشكر ولا يوضع الشكر موضع الحمد . وروي عن ابن عباس أنه قال : الحمد لله كلمة كل شاكر ، وأن آدم عليه السلام قال حين عطس : الحمد لله . وقال الله لنوح عليه السلام : "فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين" وقال ابراهيم عليه السلام : "الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق" . وقال في قصة داود وسليمان : "وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين" . وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : "وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا" . وقال أهل الجنة : "الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن" . "دعواهم أن الحمد لله رب العالمين" فهي كلمة كل شاكر .
قلت : الصحيح ان الحمد ثناء على الممدوح بصفاته من غير سبق إحسان ، والشكر ثناء على المشكور بما أولى من الإحسان . وعلى هذا الحد قال علماؤنا : الحمد اعم من الشكر ، لأن الحمد يقع على الثناء وعلى التحميد وعلى الشكر ، والجزاء مخصوص إنما يكون مكافأة لمن أولاك معروفا ، فصار الحمد أعم في الآية لأنه يزيد على الشكر . ويذكر الحمد بمعنى الرضا ، يقال : بلوته فحمدته ، أي رضيته . ومنه قوله تعالى : "مقاما محمودا" . وقال عليه السلام :
"أحمد إليكم غسل الإحليل" أي أرضاه لكم . ويذكر عن جعفر الصادق في قوله الحمد لله : من حمده بصفاته كما وصف نفسه فقد حمد ، لأن الحمد جاء وميم ودال ، فالحاء من الوحدانية ، والميم من الملك ، والدال من الديمومية ، فمن عرفه بالوحدانية والديمومية والملك فقد عرفه ، وهذا هو حقيقة الحمد لله . وقال شقيق بن ابراهيم في تفسير الحمد لله قال : هو على ثلاثة اوجه أولها إذا اعطاك الله شيئاً تعرف من أعطاك . والثاني ان ترضى بما أعطاك . والثالث ما دامت قوته في جسدك ألا تعصيه ، فهذه شرائط الحمد .
السادسة : أثنى الله سبحانه بالحمد على نفسه ، وافتتح كتابه بحمده ، ولم يأذن في ذلك لغيهر ، بل نهاهم عن ذلك في كتابه وعلى لسان نبيه عليه السلام ، فقال : "فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى" . وقال عليه السلام :
"احثوا في وجوه المداحين التراب" رواه المقداد . وسيأتي القول فيه في النساء إن شاء الله تعالى .
فمعنى الحمد لله رب العالمين . أي سبق الحمد مني لنفسي قبل ان يحمدني أحد من العالمين ، وحمدي نفسي لنفسي في الأزل لم يكن بعلة ، وحمدي الخلق مشوب بالعلل . قال علماؤنا : فيستقبح من المخلوق الذي لم يعط الكمال أن يحمد نفسه ليستجلب لها المنافع ويدفع عنها المضار . وقيل : لما علم سبحانه عجز عباده عن حمده ، حمد نفسه لنفسه في الأزل ، فاستفراغ طوق عبادة هو محل العجز عن حمده . ألا ترى سيد المرسلين كيف أظهر العجز بقوله :
"لا أحصي ثناء عليك" . وأنشدوا :
إذا نحن أثنينا عليك بصالح فأنت كما نثني وفوق الذي نثني
وقيل : حمد نفسه في الأزل لما علم من كثرة نعمه على عبداه وعجزهم عن القيام بواجب حمده فحمد نفسه عنهم ، لتكون النعمة أهنأ لديهم ، حيث أسقط عنهم به ثقل المنة .
السابعة : وأجمع القراء السبعة وجمهور الناس على رفع الدال من الحمد لله . وروي عن سفيان بن عيينة ورؤبة بن العجاج : الحمد لله بنصب الدال ، وهذا على إضمار فعل . ويقال : الحمد لله بالرفع مبتدأ وخبر ، وسبيل الخبر أن يفيد ، فما الفائدة في هذا ؟ فالجواب أن سيبوبه قال : إذا قال الرجل الحمد لله بالرفع ففيه من المعنى مثل ما في قولك : حمدت الله حمداً ، إلا أن الذي يرفع الحمد يخبر ان الحمد منه ومن جميع الخلق لله ، والذي ينصب الحمد يخبر أن الحمد منه وحده لله . وقال غير سيبويه . إنما يتكلم بهذا تعرضاً لعفو الله ومغفرته وتعظيماً له وتمجيداً ، فهو خلاف معنى الخبر وفيه معنى السؤال . وفي الحديث :
"من شغل بذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين" . وقيل
: إن مدحه عز وجل لنفسه وثناءه عليها ليعلم ذلك عباده ، فالمعنى على هذا : قولوا الحمد لله .
قال الطبري : الحمد لله ثناء أثنى به على نفسه ، وفي ضمنه امر عباده ان يثنوا عليه ، فكأنه قال : قولوا الحمد لله ، وعلى هذا يجيء قولوا إياك . وهذا من حذف العرب ما يدل ظاهر الكلام عليه ، كما قال الشاعر :
وأعلم انني سأكون رمسا إذا سار النواعج لا يسير
فقال السائلون لمن حفرتم فقال القائلون لهم وزير
المعنى : المحفور له وزير ، فحذف لدلالة ظاهر الكلام عليه ، وهذا كثير . وروي عن ابن أبي عبلة . الحمد لله بضم الدال واللام على إتباع الثاني الأول ، وليتجانس اللفظ ، وطلب التجانس في اللفظ كثير في كلامهم ، نحو : أجوءك ، وهو منحدر من الجبل ، بضم الدال والجيم . قال :
اضرب الساقين أمك هابل
بضم النون لأجل ضم الهمزة . وفي قراءة لأهل مكة مردفين بضم الراء إتباعاً للميم ، وعلى ذلك مقتلين بضم القاف . وقالوا : لإمك ، فكسروا الهمزة إتباعاً للام ، وأنشد للنعمان بن بشير:
ويا أمها في هواء الجو طالبة ولا كهذا الذي في الأرض مطلوب
الأصل : ويل لأمها ، فحذفت الام الأولى واستثقل ضم الهمزة بعد الكسرة فنقلها للام ثم أتبع اللام الميم . وروي عن الحسن بن ابي الحسن وزيد بن علي : الحمد لله بكسر الدال على إتباع الأول الثانية .
الثامنة : قوله تعالى : "رب العالمين" أي مالكهم ، وكل من ملك شيئاً فهو ربه ، فالرب : المالك . وفي الصحاح : والرب اسم من أسماء الله تعالى ، ولا يقال في غيره إلا بالإضافة ، وقد قالوه في الجاهلية للملك ، قال الحارث بن حلزة :
وهو الرب والشيد على يو م الحيارين والبلاء بلاء
والرب : السيد ، ومنه قوله تعالى : "اذكرني عند ربك" . وفي الحديث :
"أن تلد الأمة ربتها" أي سيدتها ، وقد بيناه في كتاب التذكرة . والرب : المصلح والمدبر والجابر والقائم . قال الهروي وغيره : يقال لمن قام بإصلاح شيء وإتمامه : قد ربه يربه فهو رب له وارب ، ومنه سمي الربانيون لقيامهم بالكتب . وفي الحديث :
"هل لك من نعمة تربها عليه" أي تقوم بها وتصلحها . والرب : المعبود ، ومنه قول الشاعر :
أرب يبول الثعلبان برأسه لقد ذل من بالت عليه الثعالب
ويقال على التكثير : رباه ورببه وربته ، حكاه النحاس . وفي الصحاح : ورب فلان ولده يربه ربا ، ورببه وترببه بمعنى ، أي رباه . والمربوب : المربى .
التاسعة :قال بعض العلماء :إن هذا الاسم هو اسم الله الأعظم ، لكثرة دعوة الداعين به ، وتأمل ذلك في القرآن ، كما في آخر آل عمران وسورة إبراهيم وغيرهما ، ولما يشعر به هذا الوصف من الصلة بين الرب والمربوب ، مع ما يتضمنه من العطف والرحمة والافتقار في كل حال .
واختلف في اشتقاقه ، فقيل : إنه مشتق من التربية ، فالله سبحانه وتعالى مدبر لخلقه ومربيهم ، ومنه قوله تعالى "وربائبكم اللاتي في حجوركم" . فسمى بنت الزوجة ربيبة لتربية الزوج لها .
فعلى أنه مدبر لخلقه ومربيهم يكون صفة فعل ، وعلى أن الرب بمعنى المالك والسيد يكون صفة ذات .
العاشرة : متى أدخلت الألف واللام على رب اختص الله تعالى به ، لأنها للعهد ، وان حذفنا منه صار مشتركاً بين الله وبين عباده . فيقال : الله رب العباد ، وزيد رب الدار ، فالله سبحانه رب الأرباب ، يملك المالك والمملوك ، وهو خالق ذلك ورازقه ، وكل رب سواه غير خالق ولا رازق ، وكل مملوك فمملك بعد أن لم يكن ، ومنتزع ذلك من يده ، وإنما يملك شيئاً دون شيء ، وصفة الله تعالى مخالفة لهذه المعاني ، فهذا الفرق بين صفة الخالق والمخلوقين .
الحادية عشرة : قوله تعالى : "العالمين" اختلف اهل التأويل في "العالمين" اختلافاً كثيراً ، فقال قتادة : العالمون جمع عالم ، وهو كل موجود سوى الله تعالى ، ولا واحد له من لفظه مثل رهط وقوم . وقيل : أهل كل زمان عالم ، قاله الحسين بن الفضل ، لقوله تعالى : "أتأتون الذكران من العالمين" أي من الناس . وقال العجاج :
فخنذف هامة هذا العالم
وقال جرير بن الخطفى :
تنصفه البرية وهو سام ويضحي العالمون له عيالا
وقال ابن عباس : العالمون الجن والإنس ، دليله قوله تعالى : "ليكون للعالمين نذيرا" ولم يكن نذيراً للبهائم . وقال الفراء و ابو عبيدة العالم عبارة عمن يعقل ، وهم اربع أمم : الإنس والجن والملائكة والشياطين . ولا يقال للبهائم : عالم ، لأن هذا الجمع إنما هو جمع من يعقل خاصة .
قال الأعشى
ما إن سمعت بمثلهم في العالمينا
وقال زيد بن أسلم : هم المرتزقون ، ونحوه قول ابي عمرو بن العلاء : هم الروحانيون . وهو معنى قول ابن عباس ايضاً : كل ذي روح دب على وجه الأرض . وقال وهب بن منبه : إن الله عز وجل ثمانية عشر ألف عالم ، الدنيا عالم منها . وقال ابو سعيد الخدري : إن لله أربعين ألف عالم ، الدنيا من شرقها الى غربها عالم واحد . وقال مقاتل : العالمون ثمانون ألف عالم ، أربعو نألف عالم في البر، وأربعون ألف عالم في البحر . وروى الربيع بن انس عن ابي العالية قال : الجن عالم ، والإنس عالم ، وسوى ذلك للأرض أربع زوايا في كل زاوية ألف وخمسمائة عالم ، خلقهم لعبادته .
قلت : والقول الأول أصح هذه الأقوال ، لأنه شامل لكل مخلوق وموجود ، دليله قوله تعالى : "قال فرعون وما رب العالمين * قال رب السماوات والأرض وما بينهما" . ثم هو مأخوذ من العلم والعلامة ، لأنه يدل على موجده . كذا قال الزجاج قال :العالم كل ما خلقه الله في الدنيا والآخرة . وقال الخليل : العلم والعلامة والمعلم : ما دل على الشيء ، فالعالم دال على أن له خالقاً ومدبراً ، وهذا واضح . وقد ذكر ان رجلاً قال بين يدي الجنيد : الحمد لله ، فقال له : أتمها كما قال الله ، قل : رب العالمين ، فقال الرجل : ومن العالمين حتى تذكر مع الحق ؟ قال : قل يا أخي ؟ فإن المحدث إذا قرن مع القديم لا يبقى له أثر .
الثانية عشرة : يجوز الرفع والنصب في رب فالنصب على المدح ، والرفع على القطع ، أي هو رب العالمين .
القراء السبعة على ضم الدال في قوله الحمد لله هو مبتدأ وخبر. وروي عن سفيان بن عيينة ورؤبة بن العجاج أنهما قالا (الحمد لله) بالنصب وهو على إضمار فعل وقرأ ابن أبي عبلة الحمد لله بضم الدال واللام اتباعاً للثاني الأول وله شواهد لكنه شاذ ، وعن الحسن وزيد بن علي "الحمد لله" بكسر الدال اتباعاً للأول الثاني .
قال أبو جعفر بن جرير معنى "الحمد لله" الشكر لله خالصاً دون سائر ما يعبد من دونه ، ودون كل ما برأ من خلقه بما أنعم على عباده من النعم التي لا يحصيها العدد ولا يحيط بعددها غيره أحد ، في تصحيح الالات لطاعته وتمكين جوارح أجسام المكلفين لأداء فرائضه مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق ، وغذاهم من نعيم العيش من غير استحقاق منهم ذلك عليه ، ومع ما نبههم عليه ودعاهم إليه من الأسباب المؤدية إلى دوام الخلود في دار المقام في النعيم المقيم ، فلربنا الحمد على ذلك كله أولاً وآخراً . وقال ابن جرير رحمه الله : الحمد لله ثناء أثنى به على نفسه وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه فكأنه قال : قولوا الحمد لله . قال وقد قيل أن قول القائل الحمد لله ثناء عليه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى ، وقوله الشكر لله ثناء عليه بنعمه وأياديه ثم شرع في رد ذلك بما حاصله أن جميع أهل المعرفة بلسان العرب يوقعون كلاً من الحمد والشكر مكان الاخر وقد نقل السلمي هذا المذهب أنهما سواء عن جعفر الصادق وابن عطاء من الصوفية ، وقال ابن عباس الحمد لله كلمة كل شاكر ، وقد استدل القرطبي لابن جرير بصحة قول القائل الحمد لله شكراً ، وهذا الذي ادعاه ابن جرير فيه نظر ، لأنه اشتهر عند كثير من العلماء من المتأخرين أن الحمد هو الثناء بالقول على المحمود بصفاته اللازمة والمتعدية ، والشكر لا يكون إلا على المتعدية ويكون بالجنان واللسان والأركان كما قال الشاعر :
أفادتكم النعماء مني ثلاثة : يدي ولساني والضمير المحجبا
ولكنهم اختلفوا أيهما أعم الحمد أو الشكر على قولين والتحقيق أن بينهما عموماً وخصوصاً فالحمد أعم من الشكر من حيث ما يقعان عليه لأنه يكون على الصفات اللازمة والمتعدية ، تقول حمدته لفروسيته وحمدته لكرمه وهو أخص ، لأنه لا يكون إلا بالقول ، والشكر أعم من حيث ما يقعان عليه لأنه يكون بالقول والفعل والنية كما تقدم وهو أخص لأنه لا يكون إلا على الصفات المتعدية لا يقال شكرته لفروسيته وتقول شكرته على كرمه وإحسانه إلي . هذا حاصل ما حرره بعض المتأخرين والله أعلم .
وقال أبو نصر إسماعيل بن حماد الجوهري : الحمد نقيض الذم ، تقول حمدت الرجل أحمده حمداً ومحمدة فهو حميد ومحمود والتحميد أبلغ من الحمد ، والحمد أعم من الشكر ، وقال في الشكر هو الثناء على المحسن بما أولاه من المعروف يقال شكرته وشكرت له وباللام أفصح . وأما المدح فهو أعم من الحمد لأنه يكون للحي وللميت وللجماد أيضاً كما يمدح الطعام والمكان ونحو ذلك ويكون قبل الإحسان وبعده ، وعلى الصفات المتعدية واللازمة أيضاً فهو أعم .
ذكر أقوال السلف في الحمد
قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو معمر القطيعي حدثنا حفص عن حجاج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال عمر رضي الله عنه : قد علمنا سبحان الله ولا إله إلا الله ، فما الحمد لله ، فقال علي : كلمة رضيها الله لنفسه ، ورواه غير أبي معمر عن حفص فقال : قال عمر لعلي ـ وأصحابه عنده ـ: لا إله إلا الله وسبحان الله والله أكبر قد عرفناها فما الحمد لله ؟ قال علي : كلمة أحبها الله تعالى لنفسه ورضيها لنفسه وأحب أن تقال ، وقال علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران : قال ابن عباس : الحمد لله كلمة الشكر وإذا قال العبد الحمد لله قال : شكرني ، عبدي رواه ابن أبي حاتم ، وروى أيضاً هو وابن جرير من حديث بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس أنه قال الحمد لله هو الشكر لله هو الاستخذاء له والإقرار له بنعمته وهدايته وابتدائه وغير ذلك ، وقال كعب الأحبار: الحمد لله ثناء الله ، وقال الضحاك : الحمد لله رداء الرحمن ، وقد ورد الحديث بنحو ذلك .
قال ابن جرير : حدثنا سعيد بن عمرو السكوني حدثنا بقية بن الوليد حدثني عيسى بن إبراهيم عن موسى بن أبي حبيب عن الحكم بن عمير وكانت له صحبة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قلت الحمد لله رب العالمين فقد شكرت الله فزادك ، وقد روى الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا روح حدثنا عوف عن الحسن عن الأسود بن سريع قال : قلت يا رسول الله ألا أنشدك محامد حمدت بها ربي تبارك وتعالى فقال : "أما إن ربك يحب الحمد" ورواه النسائي عن علي بن حجر عن ابن علية عن يونس بن عبيد عن الحسن الأسود بن سريع به . وروى أبو عيسى الحافظ الترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث موسى بن إبراهيم بن كثير عن طلحة بن خراش عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أفضل الذكر لا إله إلا الله ، وأفضل الدعاء الحمد لله" وقال الترمذي حسن غريب ، وروى ابن ماجه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما أنعم الله على عبد نعمة فقال : الحمد الله إلا كان الذي أعطى أفضل مما أخذ" وقال القرطبي في تفسيره وفي نوادر الأصول عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لو أن الدنيا بحذافيرها في يد رجل من أمتي ثم قال الحمد لله كان الحمد لله أفضل من ذلك" قال القرطبي وغيره أي لكان إلهامه الحمد لله أكثر نعمة عليه من نعم الدنيا لأن ثواب الحمد لله لا يفنى ونعيم الدنيا لا يبقى قال الله تعالى : "المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً" وفي سنن ابن ماجه عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم أن عبداً من عباد الله قال يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك . فعضلت بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها فصعدا إلى الله فقالا يا ربنا إن عبداً قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها، قال الله ، وهو أعلم بما قال عبده ، ماذا قال عبدي ؟ قالا يا رب إنه قال : لك الحمد يا رب كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك . فقال الله لهما "اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها" وحكى القرطبي عن طائفة أنهم قالوا قول العبد الحمد لله رب العالمين أفضل من قوله لا إله إلا الله لاشتمال الحمد لله رب العالمين على التوحيد مع الحمد ، وقال آخرون لا إله إلا الله أفضل لأنها تفصل بين الإيمان والكفر وعليها يقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، كما ثبت في الحديث المتفق عليه وفي الحديث الاخر : "أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي : لا إله إلا الله وحده لا شريك له" وقد تقدم عن جابر مرفوعاً "أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله" وحسنه الترمذي والألف واللام في الحمد لاستغراق جميع أجناس الحمد وصنوفه لله تعالى كما جاء في الحديث "اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله وبيدك الخير كله وإليك يرجع الأمر كله" الحديث .
والرب هو المالك المتصرف ويطلق في اللغة على السيد وعلى المتصرف للإصلاح وكل ذلك صحيح في حق الله ولا يستعمل الرب لغير الله بل بالإضافة تقول : رب الدار ، رب كذا ، وأما الرب فلا يقال إلا الله عز وجل ، وقد قيل إنه الاسم الأعظم . والعالمين جمع عالم وهو كل موجود سوى الله عز وجل والعالم جمع لا واحد له من لفظه ، والعوالم أصناف المخلوقات في السموات وفي البر والبحر وكل قرن منها وجيل يسمى عالماً أيضاً . قال بشر بن عمار عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس "الحمد لله رب العالمين" الحمد لله الذي له الخلق كله السموات والأرض وما فيهن وما بينهن مما نعلم ومما لا نعلم . وفي رواية سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس : رب الجن والإنس ، وكذلك قال سعيد بن جبير ومجاهد وابن جريج وروي عن علي نحوه قال ابن أبي حاتم بإسناده لا يعتمد عليه ، واستدل القرطبي لهذا القول بقوله تعالى : "ليكون للعالمين نذيراً" وهم الجن والإنس . قال الفراء وأبو عبيد : العالم عبارة عما يعقل وهم الإنس والجن والملائكة والشياطين ولا يقال للبهائم عالم . وعن زيد بن أسلم وأبي محيصن العالم كل ما له روح ترفرف . وقال قتادة : رب العالمين كل صنف عالم ، وقال الحافظ ابن عساكر في ترجمة مروان بن محمد وهو أحد خلفاء بني أمية وهو يعرف بالجعد ويلقب بالحمار أنه قال خلق الله سبعة عشر ألف عالم أهل السموات وأهل الأرض عالم واحد وسائرهم لا يعلمهم إلا الله عز وجل .
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى : "رب العالمين" قال الإنس عالم وما سوى ذلك ثمانية عشر ألف أو أربعة عشر ألف عالم ـ هو يشك ـ الملائكة على الأرض وللأرض أربع زوايا ، في كل زاوية ثلاثة آلاف عالم وخمسمائة عالم خلقهم الله لعبادته . رواه ابن جرير وابن أبي حاتم . وهذا كلام غريب يحتاج مثله إلى دليل صحيح . وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا هشام بن خالد حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا الفرات ، يعني ابن الوليد ، عن معتب بن سمي عن سبيع يعني الحميري في قوله تعالى : "رب العالمين" قال : العالمين ألف أمة فستمائة في البحر وأربعمائة في البر ، وحكي مثله عن سعيد بن المسيب وقد روي نحو هذا مرفوعاً كما قال الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى في مسنده : حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبيد بن واقد القيسي أبو عباد حدثني محمد بن عيسى بن كيسان حدثنا محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : قل الجراد في سنة من سني عمر التي ولي فيها ، فسأل عنه فلم يخبر بشيء ، فاغتم لذلك ، فأرسل راكباً يضرب إلى اليمن وآخر إلى الشام وآخر إلى العراق يسأل هل رؤي من الجراد بشيء ، أم لا قال فأتاه الراكب الذي من قبل اليمن بقبضة من جراد ، فألقاها بين يديه فلما رآها كبر ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "خلق الله ألف أمة : ستمائة في البحر وأربعمائة في البر ، فأول شيء يهلك من هذه الأمم الجراد فإذا هلك تتابعت مثل النظام إذا قطع سلكه" محمد بن عيسى هذا وهو الهلالي ضعيف وحكى البغوي عن سعيد بن المسيب أنه قال لله ألف عالم ستمائة في البحر وأربعمائة في البر وقال وهب بن منبه لله ثمانية عشر ألف عالم الدنيا عالم منها ، وقال مقاتل : العوالم ثمانون ألفاً ، وقال كعب الأحبار لا يعلم عدد العوالم إلا الله عز وجل نقله البغوي . وحكى القرطبي عن أبي سعيد الخدري أنه قال إن لله أربعين ألف عالم الدنيا من شرقها إلى مغربها عالم واحد منها، وقال الزجاج العالم كل ما خلق الله في الدنيا والاخرة قال القرطبي : وهذا هو الصحيح إنه شامل لكل العالمين كقوله : "قال فرعون وما رب العالمين ؟ * قال رب السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين" والعالم مشتق من العلامة (قلت) لأنه علم دال على وجود خالقه وصانعه ووحدانيته كما قال ابن المعتز :
فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
2- "الحمد لله" الحمد: هو الثناء باللسان على الجميل الاختياري، وبقيد الاختيار فارق المدح، فإنه يكون على الجميل وإن لم يكن الممدوح مختاراً كمدح الرجل على جماله وقوته وشجاعته. وقال صاحب الكشاف: إنهما إخوان، والحمد أخص من الشكر مورداً وأعم منه متعلقاً. فمورد الحمد اللسان فقط، ومتعلقه النعمة وغيرها. ومورد الشكر اللسان والجنان والأركان، ومتعلقه النعمة. وقيل: إن مورد الحمد كمورد الشكر، لأن كل ثناء باللسان لا يكون من صميم القلب مع موافقة الجوارح ليس بحمد بل سخرية واستهزاء. وأجيب بأن اعتبار موافقة القلب والجوارح في الحمد لا يستلزم أن يكون مورداً له بل شرطاً- وفرق بين الشرط والشطر وتعريفه لاستغراق أفراد الحمد وأنها مختصة بالرب سبحانه على معنى أن حمد غيره لا اعتداد به، لأن المنعم هو الله عز وجل، أو على أن حمده هو الفرد الكامل فيكون الحصر ادعائياً. ورجح صاحب الكشاف أن التعريف هنا هو تعريف الجنس لا الاستغراق، والصواب ما ذكرناه. وقد جاء في الحديث: "الله لك الحمد كله" وهو مرتفع بالابتداء وخبره الظرف وهو الله. وأصله النصب على المصدرية بإضمار فعله كسائر المصادر التي تنصبها العرب، فعدل عنه إلى الرفع لقصد الدلالة على الدوام والثبات المستفاد من الجمل الإسمية دون الحدوث والتجدد اللذين تفيدهما الجمل الفعلية، واللام الداخلة على الاسم الشريف هي لام الاختصاص. قال ابن جرير: الحمد ثناء أثنى به على نفسه، وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه، فكأنه قال: قولوا الحمد لله، ثم رجح اتحاد الحمد والشكر مستدلاً على ذلك بما حاصله: أن جميع أهل المعرفة بلسان العرب يوقعون كلاً من الحمد والشكر مكان الآخر. قال ابن كثير: وفيه نظر لأنه اشتهر عند كثير من العلماء المتأخرين أن الحمد هو الثناء بالقول على المحمود بصفاته اللازمة والمتعدية. والشكر لا يكون إلا على المتعدية ويكون بالجنان واللسان والأركان انتهى. ولا يخفى أن المرجع في مثل هذا إلى معنى الحمد في لغة العرب لا إلى ما قاله جماعة من العلماء المتأخرين، فإن ذلك لا يرد على ابن جرير، ولا تقوم به الحجة، هذا إذا لم يثبت للحمد حقيقة شرعية، فإن ثبتت وجب تقديمها. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال عمر: قد علمنا سبحان الله ولا إله إلا الله، فما الحمد لله؟ فقال علي: كلمة رضيها لنفيه. وروى ابن أبي حاتم أيضاً عن ابن عباس أنه قال: الحمد لله كلمة الشكر، وإذا قال العبد الحمد لله قال: شكرني عبدي. وروى هو وابن جرير عن ابن عباس أيضاً أنه قال: الحمد لله هو الشكر لله والاستحذاء له والإقرار له بنعمه وهدايته وابتدائه وغير ذلك. وروى ابن جرير عن الحكم بن عمير، وكانت له صحبة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا قلت الحمد لله رب العالمين فقد شكرت الله فزادك". وأخرج عبد الرزاق في المصنف والحكيم الترمذي في نوادر الأصول والخطابي في الغريب والبيهقي في الأدب والديلمي في مسند الفردوس عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الحمد راس الشكر ما شكر الله عبد لا يحمده". وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي عبد الرحمن الحبلي قال: "الصلاة شكر، والصيام وكل خير تفعله شكر وأفضل الشكر الحمد". وأخرج الطبراني في الأوسط بسيد ضعيف عن النواس بن سمعان قال: "سرقت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لئن ردها الله علي لأشكرن ربي فرجعت، فلما رآها قال: الحمد لله، فانتظروا هل يحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم صوماً أو صلاة، فظنوا أنه نسي فقالوا: يا رسول الله قد كنت قلت: لئن ردها الله علي لأشكرن ربي، قال: ألم أقل الحمد لله؟".
وقد ورد في فضل الحمد أحاديث. منها: ما أخرجه أحمد والنسائي والحاكم وصححه، والبخاري في الأدب المفرد عن الأسود بن سريع قال: قلت يا رسول الله ألا أنشدك محامد حمدت بها ربي تبارك وتعالى؟ فقال: "أما إن ربك يحب الحمد". وأخرج الترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجه وابن حبان والبيهقي عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله". وأخرج ابن ماجه والبيهقي بسند حسن عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أنعم الله على عبد نعمة فقال الحمد لله إلا كان الذي أعطى أفضل مما أخذ". وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول والقرطبي في تفسيره عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن الدنيا كلها بحذافيرها في يد رجل من أمتي ثم قال الحمد لله، لكان الحمد أفضل من ذلك". قال القرطبي: معناه لكان إلهامه الحمد أكبر نعمة عليه من نعم الدنيا، لأن ثواب الحمد لا يفنى، ونعيم الدنيا لا يبقى. وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد ينعم عليه بنعمة إلا كان الحمد أفضل منها". وأخرج عبد الرزاق في المصنف نحوه عن الحسن مرفوعاً. وأخرج مسلم والنسائي وأحمد من أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان" الحديث. وأخرج سعيد بن منصور وأحمد والترمذي وحسنه وابن مردويه عن رجل من بني سليم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سبحان الله نصف الميزان، والحمد لله تملأ الميزان والله أكبر تملأ ما بين السماء والأرض والطهور نصف الإيمان والصوم نصف الصبر". وأخرج الحكيم الترمذي عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التسبيح نصف الميزان، والحمد لله تملؤه، ولا إله إلا الله ليس لها دون الله حجاب حتى تخلص إليه". وأخرج البيهقي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التأني من الله، والعجلة من الشيطان، وما شيء أكثر معاذير من الله، وما شيء أحب إلى الله من الحمد". وأخرج ابن شاهين في السنة والديلمي عن أبان بن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التوحيد ثمن الجنة، والحمد ثمن كل نعمة، ويتقاسمون الجنة بأعمالهم". وأخرج أهل السنن وابن حبان والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع". وأخرج ابن ماجه في سننه عن ابن عمر "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثهم أن عبداً من عباد الله قال: يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، فلم يدر الملكان كيف يكتبانها، فصعدا إلى السماء فقالا: يا ربنا إن عبداً قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها، قال الله وهو أعلم بما قال عبده: ماذا قال عبدي؟ قالا: يا رب إنه قال: لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، فقال الله لهما: اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني وأجزيه بها". وأخرج مسلم عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها".
"رب العالمين" قال في الصحاح: الرب اسم من أسماء الله تعالى، ولا يقال في غيره إلا بالإضافة، وقد قالوه في الجاهلية للملك. وقال في الكشاف: الرب المالك. ومنه قول صفوان لأبي سفيان: لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن، ثم ذكر نحو كلام الصحاح. قال القرطبي في تفسيره: والرب السيد، ومنه قوله تعالى: "اذكرني عند ربك" وفي الحديث: "أن تلد الأمة ربها"، والرب: المصلح والمدبر والجابر والقائم قال: والرب المعبود. ومنه قول الشاعر:
أرب يبول الثعلبان برأسه لقد هان من بالت عليه الثعالب
و"العالمين": جمع العالم، وهو كل موجود سوى الله تعالى، قاله قتادة. وقيل: أهل كل زمان عالم، قاله الحسين بن الفضل. وقال ابن عباس: العالمون الجن والإنس. وقال الفراء وأبو عبيد: العالم عبارة عمن يعقل وهم أربعة أمم: الإنس، والجن، والملائكة، والشياطين. ولا يقال للبهائم عالم، لأن هذا الجمع إنما هو جمع ما يعقل. حكى هذه الأقوال القرطبي في تفسيره وذكر أدلتها وقال: إن القول الأول أصح هذه الأقوال لأنه شامل لكل مخلوق وموجود، دليله قوله تعالى: " قال فرعون وما رب العالمين * قال رب السماوات والأرض وما بينهما " وهو مأخوذ من العلم والعلامة لأنه يدل على موجده، كذا قال الزجاج. وقال: العالم كل ما خلقه الله في الدنيا والآخرة انتهى. وعلى هذا يكون جمعه على هذه الصيغة المختصة بالعقلاء تغليباً للعقلاء على غيرهم. وقال في الكشاف: ساغ ذلك لمعنى الوصفية فيه، وهي الدلالة على معنى العلم. وقد أخرج ما تقدم من قول ابن عباس عنه الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه. وأخرجه عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد. وأخرجه ابن جرير عن سعيد بن جبير. وأخرج ابن جبير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: "رب العالمين" قال: إله الخلق كله: السموات كلهن ومن فيهن: والأرضون كلهن ومن فيهن ومن بينهن مما يعلم ومما لا يعلم.
قوله: 2. " الحمد لله " لفظه خبر كأنه يخبر أن المستحق للحمد هو الله عز وجل وفيه تعليم الخلق تقديره قولوا الحمد لله والحمد يكون بمعنى الشكر على النعمة، ويكون بمعنى الثناء عليه بما فيه من الخصال الحميدة. يقال حمدت فلاناً على ما أسدى إلي من النعمة وحمدته على علمه وشجاعته، والشكر لا يكون إلا على النعمة، فالحمد أعم من الشكر إذ لا يقال شكرت فلاناً على علمه فكل حامد شاكر وليس كل شاكر حامداً. وقيل: الحمد باللسان قولاً: والشكر بالأركان فعلاً قال الله تعالى " وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً " (11 - الإسراء) وقال " اعملوا آل داود شكراً " (123 - سبأ).
قوله " لله " اللام فيه للاستحقاق كما يقال الدار لزيد.
قوله " رب العالمين " فالرب يكون بمعنى المالك كما يقال لمالك الدار: رب الدار: ويقال: رب الشيء إذا ملكه، ويكون بمعنى التربية والإصلاح، يقال: رب فلان الضيعة يربها إذا أتممها وأصلحها فهو رب مثل طب، وبر. فالله تعالى مالك العالمين ومربيهم، ولا يقال للمخلوق هو الرب معرفاً إنما يقال رب كذا مضافاً، لأن الألف واللام للتعميم وهو لا يملك الكل.
و"العالمين " جمع عالم، لا واحد له في لفظه واختلفوا في العالمين قال ابن عباس: هم الجن والإنس لأنهم المكلفون بالخطاب قال الله تعالى: " ليكون للعالمين نذيراً " (1 - الفرقان) وقال قتادة و مجاهد و الحسن : هم جميع المخلوقات. قال الله تعالى: " قال فرعون وما رب العالمين * قال رب السماوات والأرض وما بينهما " (23 - 24 الشعراء) واشتقاقه من العلم والعلامة سموا به لظهور أثر الصنعة فيهم قال أبو عبيد: هم أربعة أمم: الملائكة، والأإنس، والجن، والشياطين، مشتق من العلم، ولا يقال للبهائم عالم لأنها لا تعقل، واختلفوا في مبلغهم قال سعيد بن المسيب لله ألف عالم ستمائة في البحر وأربعمائة في البر وقال مقاتل بن حيان : لله ثمانون ألف عالم أربعون ألفاً في البحر وأربعون ألفاً في البر. وقال وهب : لله ثمانية عشر ألف عالم الدنيا عالم منها، وما العمران في الخراب إلا كفسطاط في صحراء. وقال كعب الأحبار: لا يحصي عدد العالمين أحد إلا الله قال الله تعالى: " وما يعلم جنود ربك إلا هو " (31 - المدثر).
2- " الحمد لله " الحمد : هو الثناء على الجميل الاختياري من نعمة أو غيرها ، و المدح : هو الثناء على الجميل مطلقاً . تقول حمدت زيداً على علمه وكرمه ، ولا تقول حمدته على حسنه ، بل مدحته . وقيل هما أخوان ، و الشكر : مقابلة النعمة قولاً وعملاً واعتقاداً قال :
‌ أفادتكم النعماء مني ثلاثةً يدي ولساني والضمير المحجبا
فهو أعم منهما من وجه ، وأخص من آخر ولما كان الحمد من شعب الشكر أشيع للنعمة ، وأدل على مكانتها لخفاء الاعتقاد ، وما آداب الجوارح من الاحتمال جعل رأس الشكر والعمدة فيه فقال عليه الصلاة والسلام : " الحمد رأس الشكر ، وما شكر الله من لم يحمده " .
والذم نقيض الحمد و الكفران نقيض الشكر . ورفعه بالابتداء وخبره لله وأصله النصب وقد قرئ به ، وإنما عدل إلى الرفع ليدل على عموم الحمد وثباته له دون تجدده وحدوثه . وهو من المصادر التي تنصب بأفعال مضمرة لا تكاد تستعمل معها ، والتعريف فيه للجنس ومعناه : الإشارة إلى ما يعرف كل أحد أن الحمد ما هو ؟ أو للاستغراق ، إذ الحمد في الحقيقة كله له ، إذ ما من خير إلا وهو موليه بوسط أو بغير وسط كما قال تعالى : " وما بكم من نعمة فمن الله " وفيه إشعار بأنه تعالى حي قادر مريذ عالم . إذ الحمد لا يستحقه إلا من كان هذا شأنه . وقرئ الحمد لله بإتباع الدال و اللام و بالعكس تنزيلاً لهما من حيث إنهما يستعملان معاً منزلة كلمة واحدة .
" رب العالمين " الرب في الأصل مصدر بمعنى التربية : وهي تبليغ الشئ إلى كماله شيئاً فشيئا ، ثم وصف به للمبالغة كالصوم و العدل . وقيل : هو نعت من ربه يربه فهو رب ، كقولك نم ينم فهو نم ، ثم سمى به المالك لأنه يحفظ ما يملكه ويربيه . ولا يطلق على غيره تعالى إلا مقيداً كقوله : " ارجع إلى ربك " و العالم اسم لما يعلم به ، كالخاتم والقالب ، غلب فيما به الصانع تعالى ، وهو كل ما سواه من الجواهر والأعراض ، فإنها لإمكانها وافتقارها إلى مؤثر واجب لذاته تدل على وجوده ، وإنما جمعه ليشمل ما تحته من الأجناس المختلفة ، وغلب العقلاء منهم فجمعه بالياء و النون كسائر أوصافهم . وقيل : اسم وضع لذوي العلم من الملائكة والثقلين ، وتناوله لغيرهم على سبيل الاستتباع . وقيل : عني به الناس ههنا فإن كل واحد منهم عالم من حيث إنه يشتمل على نظائر ما في العالم الكبير من الجواهر والأعراض يعلم بها الصانع كما يعلم بما أبدعه في العالم الكبير ، ولذلك سوى بين النظر فيهما ، وقال تعالى : " وفي أنفسكم أفلا تبصرون " . وقرئ " رب العالمين " بالنصب على المدح . أو النداء . أو الفعل الذي دل عليه الحمد ، وفيه دليل على أن الممكنات كما هي مفتقرة إلى المحدث حال حدوثها فهي مفتقرة إلى المبقي حال بقائها .
2. Praise be to Allah, Lord of the Worlds,
2 - Praise be to God, The Cherisher and Sustainer of the Worlds